كتاب: الأكراد، اللغة، السياسة: دراسة في البنى اللغوية وسياسات الهويةصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب جديد بعنوان “الأكراد واللغة والسياسة: دراسة في البنى اللغوية وسياسات الهوية” للدكتور عقيل سعيد محفوض
يشبّه الدكتور عقيل محفوض مهمة الباحث في الشؤون الكردية كمهمة من يحاول قياس مساحة دير قرب قمة جبل جودي (شرق الأناضول)، حيث رست سفينة النبي نوح؛ إذ لم تستطع المحاولات المتكررة لحساب مساحته، وكانت نتيجة الحساب تختلف في كل مرة، بحسب الأسطورة المروية.
يقول محفوض إن الباحث في الشؤون الكردية يقدم رؤيته وتحليلاته حول الكرد ليجد بعد ذلك أن من الصعب “تعيين” و”تحديد” موضوعه، وهذا ربما يكون أحد أبرز الرهانات الكردية في الزمان العالمي الراهن.
في كتابه الأخير المعنون: “الأكراد، اللغة، السياسة: دراسة في البنى اللغوية وسياسات الهوية”، يقول محفوض إن دراسة العلاقة بين الكرد واللغة والسياسة، والتركيز على البنى اللغوية وسياسات الهوية هو أحد المداخل التفسيرية لعلاقة الكرد الإشكالية بالسياسة، والتي تثير قدراً غير يسير من الالتباس وقدراً قليلاً من النقاش، سواء بالمعنى الثقافي والمعرفي أو بالمعنى السياسي والكياني.
ويضيف أن الكتابة في هذا الجانب من الموضوع الكردي، قريبة جداً من “الحواف الخطرة” لمسألة لم تنل اهتماماً جدياً بتقصي بداياتها ومساراتها وراهنيتها التي تتخذ أحياناً أشكالاً تراجيديةً، وحصريةً تقريباً. إنها مسألة تنفتح على “جروح” و”مواجهات” أنثروبولوجية عميقة، وذاكرة تاريخية سلبية، ومدارك مرتبكة، ورغبة جامحة في التشكل الكياني السيادي من جهة الكرد، والسعي الحثيث لـ”احتوائه” أو “الاستثمار” فيه من جهة الدول التي تحكم “المجال الكردي” ومن جهة النظامين الإقليمي والعالمي.
يتألف الكتاب من مقدمة وعشرة فصول وخاتمة، وعدد من الملاحق. الفصل الأول يتناول “الإطار النظري”، ويعرض للإطار المنهجي والمفردات النظرية والتحليلية المستخدمة فيها، والتي تأتي في إطار علم اللغة الاجتماعي والسياسي والتحليل الثقافي والتناول المعرفي لجدلية اللغة – الهوية – السياسة في الفضاء الكردي؛ كما يعرض لمفاهيم مثل الهوية، واللغة، والسياسات اللغوية، وسياسات الهوية، والإصلاح اللغوي.
أما الفصل الثاني فيدور حول ثلاثية “الأصل” و”التأسيس” و”التنظير” التي تتعلق بالشرط اللغوي لدى الكرد. ويتناول في المفردة الأولى النقاش حول أصل اللغة وما يفترض أنه تطور تاريخي وتفرع لغوي أدى بالكرد إلى وضعهم اللغوي الراهن. وفي المفردة الثانية حول “التأسيس” المفترض للوعي حول اللغة بما يتضمنه ذلك من نقاش حول الفواعل المؤسسة للوجود الكردي. وأما المفردة الثالثة، وهي “نظرية اللغة”، فتتحدث عن طبيعة التحديات الماثلة أمام الخيار اللغوي المحتمل أو الممكن.
يتناول الفصل الثالث وهو بعنوان: “الخريطة اللغوية: تعدد اللغات وإشكالية اللهجات”، “اللهجات الشمالية” و”اللهجات الجنوبية” و”اللهجات الفرعية” في الجنوب والشرق من “كردستان”. ويعد التكوين اللهجي أحد إشكاليات الواقع الكردي الراهن، ذلك أن ثمة أشكال لغوية تتفاوت قوة وتركيزاً بين منطقة وأخرى، وتتجاذبها اتجاهات متنازعة وتنحو لتكوين هوية متميزة من ثم لم يستطع الكرد الاتفاق على لغة/لهجة واحدة، ويبحث الكاتب في هذا الفصل أسباب عدم تمكن الكرد من تطوير لغة وسيطة قادرة على الجمع بين عدد من مكوّنات الاجتماع والبناء الثقافي الكردي.
الفصل الرابع يبحث في “جدل الألفبائية الكردية: بين العربية واللاتينية”، إذ يرى الباحث أن موضوع الألفبائية ليس تقنياً خالصاً، ولربما كان موضوعاً لرهانات ومنافسات بل صراعات سياسية متعددة. ويدور جدال نشط بين الكرد حول المسألة هل تكون ألفبائية عربية معدلة أم لاتينية معدلة؟
يتناول الفصل الخامس “التحدي أو التهديد اللغوي”، إذ يشهد البناء اللغوي للكرد تحديات واسعة الطيف ومتفاوتة من حيث مدارك الكرد حوله، ومن حيث التأثير المحتمل على هويتهم/هوياتهم الراهنة. ويتخذ التهديد أبعاداً عديدة ويرتبط بالبعد المعنوي والتكوين الثقافي والهوية للجماعة الكردية. كما يتخذ جهات عديدة مثل: الأصولي – الحداثي، الشفاهي – الكتابي، اللهجات الكردية، الشتات.
الفصل السادس، وهو بعنوان “التجارب اللغوية: توفيق وهبي، عرب شمو، جلادت بدرخان، الاستشراق”، يتناول مشروعات تحديث الألفبائية الكردية وهندسة ألفبائية لاتينية معدلة، وهو ما قام به “عرب شمو” و”توفيق وهبي” و”جلادت بدرخان”، بالإضافة إلى مشروعات المستشرقين (أو المستكردين)، وثمة مشروعات عديدة على مستوى “قوننة” اللغة و”تقعيدها” فيما يخص عدد من اللغات واللهجات الفرعية والجهوية.
يدور الفصل السابع حول “السياسات الدولتية: الاحتواء اللغوي”، ويعرض للسياسات التي تنهجها دول المنطقة تجاه أكرادها فيما يخص الهوية وبعدها اللغوي والثقافي، وتركز في ذلك على الانحسار التدريجي للغة والثقافة الكردية في تاريخ المنطقة، إذ أدت “أسلمة” الكرد – مع عوامل أخرى عديدة – إلى إدراجهم الفرعي في المجال الإسلامي في الجوانب الثقافية واللغوية، حيث تحوّل الكرد نحو العربية، لغة و/أو حروفاً. وقد اتبعت الدول المتشكلة حديثاً سياسات عقابية على استعمال اللغات الكردية، وأحياناً ما عدتها مسألة “أمن قومي”.
الفصل الثامن بعنوان “السياسات اللغوية الكردية”، يتناول سياسات الاحتواء الدولتية للهوية اللغوية للكرد والتي أدت إلى سياسات عكسية، أبرزها تطور وعي الكرد بهويتهم.
يدور الفصل التاسع حول “الإصلاح اللغوي”، الذي يشكل خطوة أخرى في السياسة اللغوية للكرد، وهو سياسة تستهدف التأثير على الواقع اللغوي كلياً أو جزئياً من أجل تحسين شروط المشروع القومي للكرد
الفصل العاشر بعنوان “اللغة وسياسات الهوية”، إذ تتأسس سياسات الهوية – في جوانب منها – على المعطى اللغوي، وهي تنفتح بذلك على بؤر من التوتر والنزاع بين الكرد وجيرانهم من جهة وبين الكرد أنفسهم، وجماعاتهم اللغوية أو لهجاتهم من جهة أخرى. ويتداخل البعد اللغوي مع أبعاد أخرى، الأمر الذي يجعل المسألة اللغوية تعبّر بشدة عن تحديات التوحيد القومي للكرد في العالم اليوم.
يقول الباحث إن تناول “السياسات اللغوية” و”سياسات الهوية”، هو بالضبط فتح لباب المناقشة حول عدد من قضايا الوجود الكردي المعاصر. فالأبعاد الوظيفية للمسألة اللغوية تختلط بالأبعاد المعرفية، مثلما أنها تتداخل مع السياسات الدولتية والسياسات المناهضة لها.
يتطلب البحث في واقع اللغة والثقافة والهوية والسياسة قراءات متعددة في التحولات التاريخية والأصول والإشكاليات التي أدت بالكرد إلى ما هم عليه الآن، وليس القيام بإسقاطات من الواقع الراهن على الماضي، أو القول بـ”نظرية المؤامرة” وبأن الكرد تعرضوا لـ”غزو” ثقافي ولغوي وديني، مثلما تعرضوا لأنواع الغزو الأخرى، وأنهم ضحايا أشكال من “التواطؤ التاريخي” ضدهم، هذه مقولات إسقاطية ولا تنطوي على كثير من المدارك والمعارف بالحركية التي حكمت الوجود التاريخي والثقافي للكرد في المنطقة (والعالم)؛ ومن ثم فإن أمام الكرد والمهتمين بالشأن الكردي (والإقليمي) أن يبذلوا الكثير من الجهود في تقصي تاريخ وثقافة وتحولات المنطقة بقدر أقل من الأدلجة والتحيز والاستعجال.
وكون الاجتماع الكردي لم يكن موضوعاً رئيساً للبحوث والدراسات الإقليمية، بل كان هامشياً وعلى أطراف الشواغل العربية والتركية والفارسية (وغيرها)، فهذا خلق مشكلات كثيرة على صعيد المعرفة كما على صعيد الواقع.
وتواجه الثقافة الكردية، كأي ثقافة أخرى، العديد من التحديات الذاتية والموضوعية، وهو ما يتطلب إدراج الكرد في أولويات البحوث والدراسات والمسوح الثقافية والانثروبولوجية والتاريخية (الخ) على أسس علمية واضحة. وينشأ ذلك من باعث رئيس وهو أهمية الثقافة الكردية في المنطقة والعالم، على عكس ما يُظن للوهلة الأولى، ذلك أن الانطباع الأوَّلي حول هامشية أو تابعية تلك الثقافة هو وليدُ وضعٍ سياسي وصور ومدارك غير واقعية، وأحياناً أنماط تربوية وإيديولوجية متحيزة.
المطلوب اليوم هو تجاوز النمطيات والتصورات المسبقة والخلل والأدلجة الفجَّة في فهم المسألة الكردية، لا بما هي هوامش لمراكز، وإنما بما هي جهات وجوانب وزوايا للنظر مباشرة ورئيسة أيضاً. والمطلوب أيضاً هو النظر إلى الموضوع الكردي (والإقليمي والعالمي، إن أمكن) من منظار كردي أيضاً، ولكن ليس من باب التنويع على الصورة بل من منظار البحث عن أصل وفهم وروئ لديها قابلية التواجد على درجة أو مسافة موضوعية من الآخرين.
هواجس بحثية
يبدو الكردي اليوم أشبه ما يكون بلاعب يقف أمام عجلة الحظ (Rota Fortunae)، ولكن خياراته “كلها” سيئة، وعليه أن يختار الأقل سوءاً بالنسبة له، وهو ما يمكن أن يكون أكثر سوءاً بالنسبة لكردي آخر، أو لشريك آخر (عربي أو تركي أو فارسي الخ). وهذا ما يجعل المشهد الكردي عبارة عن تراجيديا مفتوحة على تاريخ طويل من الوقائع والمواجهات، وانطولوجيا شديدة الوطأة وعابرة للزمان والمكان. ويضاف إلى ذلك “دورة سيزيفية” تجسد معاناة مديدة من أجل تحقيق كينونة وهوية معترف بهما. وهذا كفيل بأن يجعل علم السياسة “الكردي” أشبه بعلم يتقصى تراجيديا ثقيلة الوطأة مفتوحة على تتابع لا ينقضي من الأزمات والمواجهات.
والواقع أن الاستسلام لـ “التعقيد” والالتباس” أو الوضع “المُلغز” للمسألة الكردية لا يساعد على فهمها، وقد يكون الاعتراف بإشكالية الموضوع نوعاً من التعبير الجدي عنه، وليس تسليماً باستغلاقه وحكماً نهائياً بـ “استحالة” فهمه، مثلما أن الاستسهال أو التوهين لا يساعد بدوره على مزيد من “الوضوح”، بل قد يزيد المسألة توتراً وتعقيداً.
تتعاطى إرادة البحث مع موضوعها بكيفية مركبة، إذ ثمة بعدٌ يمثل استجابة لهواجس كردية ثقيلة ومعقدة وذات تاريخ طويل. وتريد إرادة البحث طرحها ومشاركة المتلقي في شؤون وشجون بالغة التعقيد في حقيقتها وفي المدارك الرائجة عنها، وربما بالغة “التسطيح” كما تبدو في الخطاب السياسي والإعلامي (الخ). وتريد توسيع المعارف عن موضوعها، وربما الحث على مراجعة “الصور النمطية” و”الساذجة” أو “المتوترة” و”التآمرية” حوله كما تلاحظها في الكتابة الكردية والإقليمية عنه أو ما يتعلق منه بالشؤون الإقليمية (والدولية).
ويهجس الكتاب في تناولٍ “موضوعي” – ما أمكن – لجوانب من المسألة الكردية في المنطقة، بكيفية قريبة من مفردات التفكير الكردي نفسه، ومن ثم تقديم رؤية “حيادية” و”إنسية” في مواجهة الرؤى “التأثيمية” و”القوموية” المتصلبة وغير القابلة للزحزحة والتغيير، حتى الآن.
خاتمة
ركز هذا الكتاب على دراسة العلاقة بين سياسات اللغة وسياسات الهوية في الفضاء الكردي، وخاصةً تطور نظرة الكرد لتكوينهم اللغوي، وسياساتهم على هذا الصعيد. ولم يكن هدفه تتبع تاريخ المسألة اللغوية ولا تاريخ العلاقات المتوترة والعنيفة أحياناً بين الكرد وبين النظم التسلطية في دول “المجال الكردي” والنظامين الإقليمي والعالمي. ومع ذلك فقد اقتضت الدراسة شيئاً من ذلك.
إن هذا الكتاب، بكل ما فيه من تحليل وتغطية لموضوعه، لا يتجاوز كثيراً “حدوده” العلمية والأكاديمية. ويبدو أنه يختم بما بدأ به وهو التعبير عن أن ثمة صعوبة كبيرة في “تعيين” أو “تشبير” الموضوع، وذلك يقتضي أيضاً الاعتراف بصعوبة “تمثيل” أو “تحديد” من يتكلم الكتاب عنهم، وما هي المعطيات والتجاذبات والمدارك والتصورات حول اللغة والجغرافيا والتاريخ والسياسة (الخ).
هنا يبرز التحدي الرئيس فيما يخص البناء اللغوي والنواظم المحددة لتطوره، ويبدو أن الموضوع يحتاج إلى مراجعة تُدقِّق في أصل ذلك البناء وتعدده واحتمالات تطوره ودور السياسات الكردية والدولتية (والإقليمية والدولية) فيه. وقد يكون ذلك جزءاً من حاجة أكثر شمولاً، وربما أكثر تحدياً، وتخص القيام بمراجعات وتدقيق الكيفيات المتبعة في التعاطي مع الظاهرة الكردية.
تتزايد التحديات في الشأن الكردي، وكثير منها مما لا حيلة للكرد تجاهه، ليس لضعف إرادتهم أو قلة عزيمتهم، وإنما لأن طبيعة الأشياء تفرض نفسها فرضاً، وربما لأن للسياسة منطق لا يحفل كثيراً بـ “الحق” وإنما بـ “القوة”، ونحن هنا نتحدث عن البعد السياسي الملازم تقريباً لكل ما يمت للكرد بصلة، في التاريخ، وفي الحاضر والمستقبل، وهنا لا يتعلق الأمر بما يحق للكرد وما لا يحق لهم (وهذا ينسحب بالقدر نفسه على العرب والترك والفرس، الخ)، وإنما في الكيفية التي تُحَوِّلُ حقاً أو حقيقةً ما إلى مَقولَة اتهامية واستبعادية تُبقِى المتهم “على ذمة القضية” أمد الدهر.
وعلى الرغم من التراكم المعرفي والسياسي والتجارب الكردية المعاصرة، إلا أن الخطاب الكردي لا يُسأل ولا يُحَلَّلُ ولا يُنقَدُ انطلاقاً من رؤى معرفية، ولا يُعامل “معاملة ندية” بأي مستوى أو شكل. ونعلم أن شيئاً من مبالغة في هذا القول، إلا أننا قد لا نبالغ أو نحيد عن الصواب عندما نقول ان الخطاب الكردي يخضع لمساءلة من جهة وحيدة تقريباً وهي جهة “المخاطر” الماثلة خلفه، وهي مساءلة لا تهتم بالبناء المنطقي أو الأساس الأخلاقي أو الشرعية السياسية القائمة أو المفترضة لذلك الخطاب، وإنما بالأغراض المطلوبة منه (الخطاب). الأمر الذي يعني أن “الحقيقة” الكردية ترتبط فقط بالسياسة، تأييداً أو معارضةً.
لا بد من النظر إلى التجارب اللغوية وسياسات الهوية (للكرد) في ظل غياب سلطة عامة للكرد لديها إمكانات ومسؤوليات “توحيدية” أو “إدماجية” أو “تشاركية”، وفي ظل دول (بالأحرى نظم وسياسات تسلطية) تضم الكردي ليس باعتباره كردياً وإنما بِعَدِّهِ في منزلة بين منزلتين: المواطن (رسمياً) المسمى تركياً أو سورياً أو عراقياً أو إيرانياً (الخ)؛ والمواطن “ناقص الهوية” أو “ناقص الأهلية” غير المنتمي للإيديولوجيا الرسمية للنظم أو الدولة القائمة. وهذا يفترض وجود العديد من الفواعل والظروف القاهرة التي تمنع الكرد من تطوير مسار لغوي جامع أو سياسات لغوية بينية تفاعلية ومعيارية.
وأما الجهود اللغوية لدى الكرد في منطقة أو جهة ما، فقد تشكل دفعاً هاماً – بصرف النظر عن درجتها ونوعيتها – لجهود الكرد في جهات أخرى. غير أن السياسات اللغوية سواء أكانت رد فعل على سياسات الاحتواء أو صدرت عن وعي عميق بالمسألة اللغوية، ربما تواجه مستقبلاً تحديات كردية متزايدة وخاصةً لجهة المنافسات والصراعات المحتملة بشأن طبيعة العلاقة بين البعد اللغوي والبعد السياسي للهوية الكردية نفسها، وتحدي اعتبار اللغة(ات) جزءاً مُكَمِّلاً وليس بالضرورة مُؤَسِّسَاً لـ “القومية الكردية”.
الواقع أن “نظرية اللغة” لدى الأكراد فيها الكثير من الغموض، وربما شَكَّلَ ذلك الأساس الذي يسمح بقدر نسبي من المناورة لتجاوز الذهنيات المغلقة والهويات الفرعية (والغيرية) المتوترة. وأما المدارك والمعارف حول اللغة، فقد لا تتعدى كثيراً التحليل اللغوي لمفردات منتشرة اليوم شفاهياً أو حتى كتابياً، وهذا على أهميته في فيللولوجيا اللغة، إلا أنه لا يفسر الواقع اللغوي للأكراد اليوم، كما أن المفاصل التاريخية والسرديات الكتابية والشفاهية الراهنة عن اللغة لا تزيد كثيراً عن كونها فرضيات لا تجمعها روابط جدية.
تكاد السياسات اللغوية لدول “المجال الكردي” وردود الأفعال الكردية تجاهها تركز فيما تركز على “الكلام” أو “التخاطب” بعده مسألة مركزية (!) وتأتي بعده المفردات الخاصة بـ الكتابة والإعلام والتعليم الخ فأول المطالب وأول الحقوق بالنسبة للكرد هو “الكلام”. وهذا يُذكِّرُ بعبارة “غوته” على لسان “مفستو” في “فاوست” يقول: “بالكلمات يستطيع المرء أن يفعل كل شيء… أهو إذن ضرب من السحر؟ نتكلم فتزول العلل من تلقاء نفسها!”(؟)
متى اصبحت اللغة هاجساً كرديا؟ في اي لحظة زمانية او مكانية وبمواجهة اي تحدٍ؟ ومتى شعر الكرد بالحاجة الى لغة قومية؟ وهل تأخر سؤال اللغة في بعده السياسي لدى الكرد؟ ما هي العلاقة بين السياسة واللغة والهوية في المجال الكردي؟ وهل ثمة خصوصية ما للعلاقة بين السياسي واللغوي كردياً؟ ماذا يحدث عندما يقيم الفكر السياسي تلازماً بين اللغة مادة وموضوعاً للمناقشات السياسية واستراتيجيات الهوية والاحتواء والاحتواء المتبادل؟ وما هو موقع اللغة في سياسات الهوية بالنسبة الى دول المجال الكردي والى الكرد؟ وما هي جدليات الهوية الممكنة او المحتملة كردياً؟ وهل طرح الكرد اسئلتهم عن اللغة والهوية ام انهم نقلوا تلك الاسئلة عن الآخر اوربياً أكان ام عربياً ام تركياً ام فارسياً ام غير ذلك؟ مجموعة اسئلة تبدو مهمة البحث عن اجوبتها من قبل اي متخصص في المجال الكردي، اشبه بمهمة الذي يسبر اغوار المجهول… يقدم رؤيته وتحليلاته عن الكرد ليجد بعد ذلك ان من الصعب تعيين موضوعه وتحديده، وقد يكون هذا احد ابرز الرهانات الكردية في الزمان العالمي الراهن.
فاللغة والهوية تعد واقعا وادراكاً، شرطين لبناء الامة، حيث ان الامم هي سيرورات تشكل اللغة والوعي بالهوية عناصر فاعلة رئيسية لها. وقد يحدث ان يتم تحييد احدى هذه العناصر الفاعلة وربما تجاهلها امام قوة حضور الاخرى في واقع المعنيين وادراكهم وارادتهم. لكن ليس ثمة اهتمام كبير بمدى شرعية ذلك التحييد او التجاهل خصوصا ان وزنها النسبي، اي العناصر الفاعلة يختلف حضوراً او تأثيراً بين جماعة اثنية واخرى وبين فترة واخرى لدى الجماعة الاثنية نفسها.
ينطبق ذلك على الموضوع الكردي، حيث هناك عناصر فاعلة او مكونات لدى الكرد تشهد قدراً غير محدد من التحييد او التجاهل فيها اللغة والتواصل الجغرافي والاستمرارية التاريخية، وتحصل احياناً الاستعاضة غير المعلنة او غير المسماة عن ذلك بقوة الارادة او قوة الايديولوجيا القائلة بأمة كردية ولغة كردية، ويحدث ان تتغلب الادلجة او الارادة على الوقائع فيندفع الكرد نحو صنع واقع ما او تخيله او التعاطي مع الفكرة المتوخاة بعدها واقعاً. وهذا ما تنشط الايديولوجيات من اجله وتهتم بصنعه وتعميمه… وهو ما يشكل موضوع هذا الكتاب الذي نحن بصدد عرض ابرز اطروحات المؤلف .
تمثل دراسة العلاقة بين الكرد واللغة والسياسة، والتركيز على البنى اللغوية وسياسات الهوية، احد المداخل التفسيرية لعلاقة الكرد الملتبسة والاشكالية، بالسياسة التي تثير قدراً غير يسير من الالتباس، وقدراً قليلاً –حتى الآن- من النقاش، سواء أكان ذلك بالمعنى الثقافي والمعرفي ام بالمعنى السياسي والكياني. وتبدو الكتابة في هذا الجانب من الموضوع الكردي قريبة جداً من الحواف الخطرة لمسألة لم تنل اهتماماً جدياً بتقصي بداياتها ومساراتها وراهنيتها التي تتخذ اشكالاً تراجيدية وحصرية تقريباً. انها مسألة تفتح على جروح ومواجهات انثروبولوجية عميقة وذاكرة تاريخية سلبية، ومدارك مرتبكة، ورغبة جامحة في التشكل الكياني السيادي من جهة الكرد والسعي الحثيث الى احتوائه او الاستثمار من جهة الدول التي تحكم المجال الكردي ومن جهة النظامين الاقليمي والعالمي.
اهتم الكتاب بالبناء اللغوي وسياسات الهوية باعتبارها قيماً مركزية في البناء الثقافي والسياسي للكرد، هو ما يعطي موضوعاتها وربما طريقة معالجتها حساسة مركبة لدى الكرد وغير الكرد، ويأتي ذلك من حداثة التعاطي مع التكوين اللغوي وطبيعته وتداخلاته القومية، ذلك ان الوعي باللغة او التأويل السياسي لها هو نوع من الاستجابة المتأخرة نسبياً في مواجهة التهديدات الثقافية واللغوية. ويندرج ذلك في اطار التأكيد على امتلاك الاهلية للبناء السياسي.
اما حساسية غير الكرد فتأتي من الشعور بان الموضوع الكردي يزيد حضوراً، كما ان تركيز الكرد على اللغة يزيد من التحديات الداخلية والدولية، لانه يهدد وجود الدولة او طبيعة النظم السياسية القائمة، ويضيف مصدر تهديد جديد الى مصادر التهديد الداخلية او مداركها او المصادر الخارجية بالنسبة الى العديد من دول المنطقة. والتهديد الذي نتحدث عنه هو نوع من تطوير ذاتي ومراجعة للرؤية الكردية والمدارك في شأن ما يتوجب على الكرد ان يفعلوه من اجل اكتساب المزيد من مؤهلات الهوية والوجود القومي.
البحث في واقع اللغة والثقافة والهوية والسياسة يتطلب قراءات متعددة في التحولات التاريخية والاصول والاشكاليات التي ادت بالكرد الى ما هم عليه الآن، لا القيام باسقاطات من الواقع الراهن على الماضي او القول بنظرية المؤامرة، وان الكرد تعرضوا لغزو ثقافي ولغوي وديني مثلما تعرضوا لانواع الغزو الاخرى، وانهم ضحايا اشكال من التواطؤ التاريخي ضدهم. هذه مقولات اسقاطية ــــ يؤكد المؤلف ــــ لا تنطوي على كثير من المدارك والمعارف بالحركية التي حكمت الوجودج التاريخي والثقافي للكرد في المنطقة، وربما في العالم، ومن ثم على الكرد المهتمين بالشأن الكردي والاقليمي ان يبذلوا كثيراً من الجهد في تقصي تاريخ المنطقة وثقافتها وتحولاتها بقدر اقل من الادلجة والتحيز والاستعجال. وكون الاجتماع الكردي لم يكن موضوعاً رئيسياً للبحوث والدراسات الاقليمية، بل كان هامشياً وعلى اطراف الشواغل العربية والتركية والفارسية وغيرها، ظهرت مشكلات كثيرة على صعيد المعرفة كما على صعيد الواقع.
فالثقافة الكردية ـــــ يقول المؤلف ــــــ تواجه مثل اي ثقافة اخرى العديد من التحديات الذاتية والموضوعية ما يتطلب ادراج الكرد في اولويات البحوث والمسوح الثقافية والانثروبولوجية والتاريخية على اسس علمية واضحة. وينشأ ذلك من باعث رئيس هو اهمية الثقافة الكردية في المنطقة والعالم على عكس ما يظن للوهلة الاولى ذلك، ان الانطباع الاولي عن هامشية تلك الثقافة او تابعيتها هو وليد وضع سياسي وصور ومدارك غير واقعية، واحياناً انماط تربوية وايديولوجية منحازة.
فالمطلوب اليوم تجاوز النمطيات والتصورات المسبقة والخلل والادلجة الفجة في فهم المسألة الكردية، كما عدم اعتبارها هوامش لمراكز بل اخذها باعتبارها جهات وجوانب وزوايا رئيسه للنظر فيها مباشرة. والمطلوب ايضاً النظر الى الموضوع الكردي والاقليمي والعالمي ان امكن من منظار كردي ايضاً لكن ليس من باب التنويع على الصورة بل من منظار البحث عن اصل وفهم ورؤى لديها قابلية للتواجد على درجة او مسافة موضوعية من الاخرين.
ان تناول السياسات اللغوية وسياسات الهوية هو بالضبط باب لمناقشة عدد من قضايا الوجود الكردي المعاصر. وهذا يعني ان المسألة اللغوية تتحد بطريقة يراد منها ان تساعد في تحليل السياسة الكردية وتفسيرها من جهة والسياسات الغيرية في شأن الكرد من جهة اخرى. وتتضمن المدارك والسياسات اللغوية ربطاً من نوع ما بين الفكر والممارسة وبين الاسم والمسمى. وهنا تختلط الابعاد الوظيفية للمسألة اللغوية بالابعاد المعرفية مثلما انها تتداخل مع السياسات الدولية والسياسات المناهضة لها.
ان النظرــــــــ ينبه المؤلف ـــــــــ الى المسألة اللغوية عند الكرد من منظور الجماعة المهددة لغوياً، ولذلك اتجاهات مختلفة، تهديد خارجي مصدره سياسات الدول، وتهديد داخلي مصدره المنافسات بين الكرد انفسهم على اولويات الاختيار اللغوي وافضلياته، واللغة القومية وغير ذلك. وثمة اوضاع للجماعة اللغوية المهددة يمكن تركيزها في النقاط التالية:
– ان تمارس دولة ما، سياسات تهدف بصورة مباشرة الى اضعاف اللغات غير الرسمية او غير المقبولة من السلطات او منعها.
– ان تكون الجماعة اللغوية قليلة العدد او ان يكون عددها متناقضاً لاسباب عديدة، مثل الهجرة او التحول عن اللغة الام الى لغات اخرى.
– ان تكون الجماعة اللغوية ضعيفة اقتصادياً او قليلة الموارد وبالتالي تجد صعوبة في تخصيص الموارد اللازمة لدعم اللغة والعمل الثقافي والهوية اللغوية.
– ان تكون الجماعة اللغوية اقل اهتماماً بالجوانب الثقافية والهوية، وتجد صعوبة في حشد التأييد او ان يميل ابناؤها الى التعبير الثقافي بلغات اخرى لاسباب، مثل الرغبة في الانتشار والحضور الواسع او توسل لغات اكثر دينامية… يجد الاكراد انفسهم في الاوضاع المذكورة ويضاف اليها الشعور الثقيل بوطأة الانحياز التاريخي في دول الجوار العربي والتركي والفارسي…
ان السياسات اللغوية ــــــــــ يستخلص المؤلف ـــــ سواء أكانت ردة فعل على سياسات الاحتواء ام صدرت عن وعي عميق بالمسألة اللغوية، ربما تواجه مستقبلاً تحديات متزايدة خصوصاً لجهة المنافسات والصراعات المحتملة بشأن طبيعة العلاقة بين البعد اللغوي والبعد السياسي للهوية الكردية نفسها، وتحدي اعتبار اللغة جزءاً مكملاً وليس بالضرورة مؤسساً للقومية الكردية.
الواقع ان نظرية اللغة لدى الاكراد فيها الكثير من الغموض، وربما شكل ذلك الاساس الذي يسمح بقدر نسبي من المناورة لتجاوز الذهنيات المغلقة والهويات الفرعية والغيرية المتوترة. اما المدارك والمعارف عن اللغة فقد لا تتعدى كثيراً التحليل اللغوي لمفردات منتشرة اليوم شفوياً او حتى كتابياً، وهذا على اهميته في فيلولوجيا اللغة لا يفسر الواقع اللغوي للاكراد اليوم، كما ان المفاصل التاريخية والسرديات الكتابية والشفوية الراهنة عن اللغة لا تزيد كثيراً على كونها فرضيات لا تجمعها روابط جدية.
تكاد السياسات اللغوية لدول المجال الكردي وردات الافعال الكردية تجاهها تركزت في ما تركز على الكلام او التخاطب بعدّه مسأله مركزية، وتأتي بعده المفردات الخاصة بالكتابة والاعلام والتعليم، فأول المطالب وأول الحقوق بالنسبة الى الكرد هو الكلام، وهذا يذكر بعبارة (غوتة) على لسان ( مفستو) في (فاوست) اذ يقول: بالكلمات يستطيع المرء ان يفعل كل شيء… أهو اذآ ضرب من السحر؟ نتكلم فتزول العلل من تلقاء نفسها.