مجدداً، ابتهج الكرد بطقوس الفرح والرقص والغناء، وطبعاً بإشعال النيران التقليدية على قمم الجبال وسفوحها احتفالاً بعيد نوروزهم في 21 آذار (مارس)، إيذاناً بحلول السنة الكردية الجديدة. لكن قبل ذلك، كان عليهم أن يستذكروا في هذه الأيام من هذا الشهر، الذي يجلب لهم المسرات والأحزان في آن، مآسي الأنفال وحلبجة التي أمر بها صدام حسين ساعياً الى «حل نهائي» لمشكلة الكرد.
«الحل» ذاك تمثل بحملة إبادة جماعية أشبه بطقوس عربدة همجية استخدمت فيها أسلحة كيماوية وتهجير وتدمير وتعريب أدت الى قتل ما بين 150 و200 ألف مدني من رجال ونساء وأطفال (منفذ الحملة علي حسن المجيد الذي يلقبه الكرد بـ «علي الكيماوي»، احتجّ خلال إحدى جلسات المفاوضات مع الوفد الكردي في أعقاب حرب الكويت سنة 1991، متهماً إياهم بالمبالغة لأن الرقم الفعلي كان 100 ألف فقط!). وتعيّن الانتظار 15 عاماً كي تُكتشف بعد إطاحة النظام البعثي في 2003، مقابر جماعية للضحايا الكرد في جنوب العراق ووسطه بلغ عددها نحو 350 مقبرة، وإن ظل متعذراً على ذوي المفقودين والمغيبين التعرف إلى أشلاء أقربائهم.
وهذا كله إضافة الى تدمير نحو 4500 قرية وحرق الأخضر واليابس في الريف الكردستاني، وتهجير 200 ألف إنسان من مناطقهم الى جنوب العراق ووسطه (سمح لهم بالعودة الى مناطقهم وفقاً لشروط بعد سنتين)، فيما حُشر مثل ذلك العدد أو أكثر من أهالي قرى مدمرة ومناطق مُعرّبة في مجمعات سكنية مطوّقة بحراسات عسكرية أقيمت خارج مدن رئيسة، وتعريب مناطق أخرى في كردستان، خصوصاً في منطقة كَرميان (كركوك امتداداً الى خانقين). ويُشار الى أن حملة التعريب في هذه المناطق شملت التركمان أيضاً.
حملة الأنفال استمرت الى ما بعد القصف الكيماوي لحلبجة وإبادة نحو خمسة آلاف من سكانها، وانتهت عملياً في أيلول (سبتمير) 1988 بلجوء عشرات الألوف الى تركيا وإيران هرباً من عمليات القصف والقمع والمطاردة.
مياه كثيرة مرت تحت جسور الكرد منذ ذلك الحين، إذ تعين عليهم أن يشهدوا خلال السنوات الفاصلة بين حلبجة والتحرير الكامل من نظام البعث الصدامي، مآسيَ أخرى غير قليلة (يتعين التنبيه الى أن هذا المقال يقتصر على تناول أوضاع كردستان العراق) أبرزها الهجرة الجماعية عقب هزيمة الجيش العراقي في الكويت وانتقاله الى الانتقام من الانتفاضتين الكردية والشيعية، ما أدى الى لجوء مئات الألوف من الكرد في نيسان (أبريل) 1991، الى الجبال وسط هستيريا رعب من ضربهم بأسلحة كيماوية، تكراراً لما حدث في حلبجة، ثم التدخل الدولي وإقامة الملاذات الآمنة وفرض حظر الطيران شمال خط العرض 36، والمفاوضات بين القيادة الكردية وصدام التي دخلت في طريق مسدود، وبالتالي أدى ذلك الى قيام إدارة كردية مستقلة وانتخابات في شباط (فبراير) 1992، أسفرت عن برلمان وحكومة وقرار البرلمان اعتماد خيار الفيديرالية، الى آخر التطورات اللاحقة مروراً بمأساة الاقتتال الكردي – الكردي في أواسط التسعينات واحتوائه وصولاً الى 2003. هنا يمكن القفز من 2003 وما سبقه من تأكيد برلمان إقليم كردستان خيار الفيديرالية الذي كان أقره في 1992، الى حزيران (يونيو) 2014 بظهور تنظيم «داعش» الذي أعلن دولة إسلامية عابرة للحدود بين العراق وسورية، صارت تجاور إقليم كردستان وتفصل بينه ودولة العراق بحدود طولها نحو 1000 كيلومتر. بين تحرير العراق في 2003 وظهور «داعش»، تمسّك الكرد بانتمائهم الى العراق، فشاركوا في السلطة المركزية ولعبوا دوراً رئيسياً في الحفاظ على وحدته، خصوصاً عندما أصبح على شفا حرب أهلية طاحنة بين 2006 و2007، وقاوموا كل الضغوط عليهم من طرفي الصراع السني – الشيعي بالانحياز الى أحدهما. لكن التطورات اللاحقة (المناطق المتنازع عليها ورفض المركز تطبيق المادة 140 من الدستور في شأن إجراء استفتاءات فيها، وتقليص صلاحيات الشركاء الكرد والسنة في السلطة المركزية، وانفراد الطرف الشيعي ممثلاً بشخص رئيس الوزراء وهو القائد العام للقوات المسلحة في آن، وانفراده بالسلطة والقرار، وتقليص أو قطع حصة الإقليم من الموازنة، ومشكلة النفط وتسويقه، مع الإشارة الى أن الإقليم قد يتحمل قسطاً من المسؤولية، لكن حصة المركز من المسؤولية أضعاف مضاعفة)، أدت بالتدريج الى خلافات بين الإقليم والمركز تفاقمت في ظل تعميق الطائفية واشتداد الصراع السني – الشيعي الذي وصل الى ذروته بظهور «داعش» في المحافظات السنية التي شكلت حاضنته.
الى ذلك، بلغ الفساد الإداري والمالي والسياسي في بغداد مستويات غير مسبوقة جعلت العراق يحتل مركزاً «رفيعاً» في قائمة الدولة الفاشلة والفاسدة في العالم، التي لا يتمنى أحد الانتماء إليها.
في غضون ما سلف، زادت الهوة بين إقليم كردستان وبقية العراق لا على مستوى القيادات السياسية فحسب بل، وهنا بيت القصيد، على المستوى الشعبي، الى حد الاغتراب الكامل تقريباً بين شعبين برؤيتين متنافرتين، خصوصاً أن أوسع شريحة اجتماعية كردية تمثل جيلاً من الشباب لا يعرف العربية أصلاً، ولم يعد يعتبر نفسه عراقياً، ولعل العكس صحيح أيضاً. واليوم، نشهد سياسيين ومسؤولين شيعة كان الكرد يعتبرونهم من أقرب حلفائهم يتقاطرون على المنابر وعبر مؤتمرات صحافية لتحذير الكرد لا من الانفصال فحسب، بل حتى من إجراء استفتاء على الاستقلال!
هنا نصل الى لب الموضوع، وهو الاستفتاء الذي يسعى إليه الكرد، وقد يُجرى قبل نهاية العام الحالي وفق رئيس الإقليم مسعود بارزاني، وهو يحظى بدعم شعبي وسياسي واسع في إقليم كردستان حتى بين أوساط لديها تحفظات عن الانفصال عن العراق، لكنْ لا يُتوقع أن تعارض الاستفتاء. ذلك أن الشعب الذي شهد حلبجة والأنفال وكل المآسي قبلهما وبعدهما وصولا الى «داعش»، لم يبقَ أمامه سوى هذا الخيار الصعب: الاستقلال.