لا يختلف كثير من السوريين على معارضتهم «دولة العراق والشام» في سوريا. ومعارضة السوريين لا تستند إلى الفكر القاعدي المتطرف الذي تتبناه الجماعة فقط والذي يعارضه السوريون لميلهم إلى الإسلام المعتدل المعروف عنهم، بل أيضا بسبب السلوكيات والممارسات التي كرستها الجماعة في الأماكن التي ظهرت فيها، والمواقع التي سيطرت عليها، مما عزز الموقف المعارض للجماعة، ودفع للتصادم معها في المستويات الشعبية والسياسية والعسكرية، رغم كثير من حرص ظهر في تجنب توسيع دائرة الصدامات في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وهي المناطق التي تسعى «دولة العراق والشام» للتمدد فيها من دون أن يكون لها أي وجود ولا نشاط في المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام. إن الأبرز في مؤشرات معارضة السوريين لـ«دولة العراق والشام»، المعروفة اختصارا باسم «داعش»، هو نتائج استطلاع للرأي قال فيه 86% من المشاركين فيه، إنهم يرفضون أعمال التنظيم التابع لـ«القاعدة»، وثمة مؤشر آخر، كرسته هتافات متظاهرين في الكثير من المدن والقرى بشمال البلاد ضد «داعش» وممارساتها على نحو ما حدث في حلب والرقة وتل أبيض وفي الدانا، التي رفع متظاهروها شعار: الدانا حرة حرة و(الدولة) تطلع برة. وإضافة إلى المؤشرات السابقة، هناك مؤشر آخر، يجسده موقف هيئة أركان «الجيش الحر» من «داعش» وممارساتها، حيث أكدت رفضها الفكر المتشدد الذي تحمله «داعش» والسلوك السياسي والعسكري الذي تمارسه في إثارة الفرقة بين السوريين وفي ممارسة العنف ضد الناشطين وتشكيلات «الجيش الحر»، وصولا إلى اغتيال قيادات وكوادر في تلك التشكيلات. لكن المؤشر الأهم والأعم في رفض السوريين لـ«داعش» يمثله موقف الائتلاف السوري، الذي وإنْ سعى في الفترة الماضية إلى التخفيف ما أمكن من حدة الصراعات الداخلية في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فإنه لم يستطع السكوت عن وجود وممارسات «داعش»، وخاصة بعد اقتحامها عددا من مدن ريف حلب ودخولها في اشتباكات واسعة مع «الجيش الحر» في عدد من المواقع، فأعلن إدانته سلوكيات «داعش» وممارساتها القمعية، واستهتارها المتكرر بأرواح السوريين، بما تمثله من «خروج عن إطار الثورة السورية يضعها في تناقض مباشر مع المبادئ التي تسعى الثورة المجيدة إلى تحقيقها». إن السؤال الطبيعي، يكمن في الأسباب التي تدفع أكثرية السوريين لمعارضة «داعش» في وجودها وفكرها وممارساتها. ففي وجودها، تنتمي الكتلة الأساسية في «داعش» إلى «الدولة الإسلامية في العراق» التي أسسها أبو بكر البغدادي الذي قتل لاحقا، واتخذ لها مكانة على يمين «القاعدة» بقيادة أيمن الظواهري، وتسللت مجموعة منها إلى سوريا في إطار تسلل المقاتلين الأجانب تحت حجة المشاركة في مواجهة النظام، وانخرطت في «جبهة النصرة» في بلاد الشام، قبل أن تدخل في صراعات داخلية، أدت إلى خروج تلك المجموعة مع مناصريها في الجبهة تحت اسم «دولة العراق والشام الإسلامية» بقيادة أبو عمر البغدادي، وجرى تدعيم المجموعة من قيادات وكوادر تنتمي إلى «القاعدة» «فروا» بطريقة مسرحية من سجون عراقية، بينها سجنا أبو غريب والتاجي، إضافة إلى كتلة من المقاتلين الأجانب الوافدين بينهم شيشان وأفغان وأوروبيون وعرب وخاصة من الخليج، وتؤلف الكتلتان القوة الأكبر في «داعش»، بينما تشكل كتلة الأعضاء السوريين القوة الأصغر والأضعف، وهو وضع طبيعي مستمد في الأهم من أسبابه إلى طبيعة الإسلام السوري.
وإذا كان التشدد والتطرف، هما السمة العامة لـ«داعش» وفهمها للإسلام، فإن ذلك جعلها، تدعي تمثيلها المسلمين السنة في مواجهة بقية المذاهب الإسلامية، بل إن المواجهة تمتد إلى السنة، طالما كانوا خارج الولاء والتأييد لها، حيث يوصفون بـ«الكفرة» و«المارقين» و«العملاء» الذين تستحل أرواحهم وممتلكاتهم، وهو عقاب ترسمه «داعش» لعلاقتها مع التشكيلات العسكرية والسياسية والمدنية في سوريا من الحراك المدني والشعبي إلى «الجيش الحر» إلى الائتلاف السوري والقوى المنضوية في إطاره وحتى القوى الموجودة خارجه.
وبالاستناد إلى ذلك الفهم، ترسم «داعش» مسار سياساتها وممارساتها في الواقع، الأمر الذي جعلها في موقع المتصادم مع التشكيلات العسكرية الإسلامية المتشددة والمعتدلة في سوريا بما فيها «جبهة النصرة»، وصولا إلى الاشتباك مع تشكيلات «الجيش الحر»، وقوات الحماية الكردية (PYD)، وهي ترفق هذا العنف مع القوى المسلحة، بعنف في التعامل مع السكان في المناطق المسيطر عليها، فأخذت تتدخل في كل تفاصيل الحياة المتعلقة بالتفكير والقول والعمل واللباس والعادات والتقاليد والعلاقات الاجتماعية تحت طائلة العقاب الجسدي وصولا حد القتل، وقد تكرر ذلك في أكثر من مدينة وقرية، بينها ما حدث من قتل لمعترضين على وجود «داعش» في مناطقهم.
ورغم الأحوال المتردية، التي تحيط بالمناطق الخارجة عن سيطرة النظام نتيجة ما تعرضت له من قتل ودمار وخراب اقتصادي على أيدي قوات النظام وصواريخه وطائراته، فإن سكان تلك المناطق، لم يوفروا جهدهم في مقاومة «داعش» من خلال حركاتهم السلمية المدنية في مظاهرات واحتجاجات ترفض فكرها ووجودها وممارساتها، وتطالبها بمغادرة تلك المناطق، إضافة إلى تصدي قوات من «الجيش الحر» نهج «داعش» في السيطرة على المناطق السكنية والمعابر مثل تل أبيض وتوجهها إلى معبر السلامة قرب أعزاز، وحذرهم من سيطرتها على الطرق العامة من خلال حواجز تضعها على تلك الطرق. لقد رسمت «داعش» صورة واقعية وسوداء لجماعات التطرف والتشدد المسلحة، وانتشارها في سوريا والمناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وينبغي إنهاء وجودها وفكرها وممارساتها، لتناقضها مع أهداف وطموحات السوريين الذين ضحوا بأرواحهم وممتلكاتهم من أجل الحرية والديمقراطية ومن أجل مستقبل أفضل لبلدهم وأجيالهم، وليس من أجل استبدال استبداد جديد تمارسه «داعش» وما يماثلها من جماعات التطرف باستبداد النظام.
الشرق الأوسط