في 22 نيسان 1898م صدرت أول صحيفة كردية باسم كردستان، وبذلك انطلقت مسيرة الصحافة الكردية، ودخل الكرد سراي صاحبة الجلالة، وأخذت الصحف والمجلات الكردية التي اتكأت على إرث صحيفة كردستان خلال قرن ونيف رغم الصعاب والوقوف والتلكؤ تشق طريقها رويدا رويدا، وتمكنت بجهود فردية محدودة من تجاوز وتخطي العراقيل الذاتية والموضوعية، لتجد مكانا لها بعد جهد جهيد في ميديا الإعلام العالمي. بالوصول إلى أوسع شريحة من الأفراد في المجتمع.
وفي بداية العقد الثاني من هذا القرن- القرن الواحد والعشرين- الذي يعتبر قرن الإعلام بامتياز، دخل الكرد ميدان الساحة الإعلامية العالمية، التي تعتمد بالإضافة إلى الاستثمار المالي الكبير على الكفاءة والخبرة والتكنولوجيا الإعلامية الرقمية المتطورة، واستطاع الإعلام الكردي بكافة أقسامه أن يجد له مكانا لابأس به بين وسائل الإعلام العالمية، وتمكنت بعض الصحف ووسائل الإعلام الكردية من لعب دور في صناعة وتوجيه الرأي العام الكردي. بالإضافة إلى الدور الثقافي التنويري، وتشكيل الوعي القومي، والحفاظ على القيم الثقافية والاجتماعية الكردية.
ومع صدور أول جريدة كردية، تم وضع حجر الأساس لانطلاق مسيرة الكلمة الكردية الحرة أيضا، في لحظة تاريخية هامة وفارقة، في نهاية القرن التاسع عشر الحافل بالثورات والحركات التحررية الكردية التي قامت في معظم أرجاء كردستان وناضلت من أجل تأمين الحقوق القومية للشعب الكردي، ورفعت البعض منها خاصة في النصف الأول من ذاك القرن شعار (استقلال كردستان) وتأسيس دولة كردية مستقلة. كحركة محمد باشا الراوندوزي في منطقة سوران، وثورة بدرخان بك في بوتان، وإخفاق كل هذه الثورات والحركات الاستقلالية الكردية نتيجة ظروف وعوامل متنوعة ذاتية وموضوعية.
لذا كان ذلك التاريخ وتلك الأحداث بحاجة إلى التوقف بتأن على العوامل والأسباب التي أدت إلى كل تلك النكسات على أعتاب القرن العشرين، والبحث عن مكمن الخلل في تلك الثورات والحركات، التي لم تتوان عن بذل الغالي والنفيس وتقديم الشهداء والقرابين من أجل هذا الهدف النبيل، إلا أن النهايات كانت صادمة ومأساوية، هذه النهايات كانت بحاجة إلى النقد والتحليل الموضوعي، بعيدا عن الشخصنة ونظرية المؤامرة.
وبذلك وضعت صحيفة كردستان اللبنة الأولى لما يمكن تسميته بـ (النقد الكردي)، لنقد الواقع الكردي، ودراسة وتشخيص هذا الواقع بشكل دقيق من مختلف الجوانب الاجتماعية والسياسية والثقافية. والتوقف عند سيكولوجية الشخصية الكردية من زاويتين الأولى العلاقة الكردية – الكردية، والثانية العلاقة الكردية مع المحيط والآخر المختلف.
ولم يطلق مقداد مدحت بدرخان اسم كردستان على جريدته من فراغ، فلاختيار هذا الاسم وإطلاقه على أول صحيفة كردية في نهاية القرن التاسع عشر، أكثر من معنى ودلالة سياسية وثقافية:
أولها: تمييز صحيفة كردستان عن بقية الصحف التي كانت تصدر في ظل الدولة العثمانية، باختيار اسم «كردستان»، لتكون صحيفة كردية «بحتة» اسما ولغة وصاحبا ومضمونا، فاسمها كردستان وصاحبها كردي ولغتها كردية، ومضمون ومواد الصحيفة كردية وتبحث في الشأن الكردي.
ثانيها: هذه الدلالات التي يمكن ملاحظاتها عند متابعة خط سير الصحيفة والاطلاع على مضمونها ومعظمها من كتابة وتحرير مقداد وعبد الرحمن بدرخان هي تبلور الشعور القومي الكردي لدى عائلة بدرخان، الذين كانت لهم بصمات واضحة في معظم المجالات السياسية والثقافية والفكرية الكردية اعتبارا من العقد الثاني من القرن التاسع عشر، ولايزال هذا الشعور مستمرا حتى الآن، وقد تجلى ذلك في معظم مقالاتهما في الصحيفة التي شددت على دعوة الكرد إلى التمرد على الواقع الاجتماعي والسياسي، والإقبال على العلم. ومواجهة الأخطار الداخلية والخارجية من خلال وحدة الصف والموقف الكردي. وفيما بعد لدى الآخرين من هذه العائلة الذين حملوا راية النضال الكردي في كافة المجالات السياسية والثقافية التنويرية. فكانوا الرواد في أكثر من مجال.
هذا الشعور الذي دفع غالبية أفراد هذه العائلة في كردستان والمهجر إلى بذل التضحيات الجسام، والعمل على أكثر من صعيد سياسي وثقافي وفكري لوضع اسم شعبهم ووطنهم «كردستان» بين أمم العالم.
ثالثها: الفصل بين كردستان والجغرافية المحيطة بها، فـ «كردستان» هنا ليست فقط صحيفة أو جريدة سياسية أو ثقافية كردية، إنما كيان جغرافي وتاريخي وثقافي مستقل، يراود مخيلة الكرد أينما كانوا، وإطلاق هذا الاسم على الصحيفة، يدفع الكرد إلى البحث في تاريخهم السياسي والثقافي والجغرافي، وقد تجلى ذلك في استقبال الجريدة بالترحاب في كل مكان داخل وخارج كردستان، ومعظم الرسائل التي وردت إلى محرري الصحيفة طالبت بمزيد من الاهتمام بالتاريخ الكردي، واستعداد أصحاب هذه الرسائل لكتابة المواد والمقالات عن تاريخ وجغرافية كردستان.
رابعها: وربما يكون الأهم هو دعوة الكرد إلى التمسك والتشبث بحقوقهم القومية ووطنهم، فلكلمة «كردستان» وقع خاص على مسامع الكرد من مختلف الشرائح وقد استطاع مدحت بدرخان أن يلامس الجانب الوجداني للكرد، باختيار الاسم العزيز عليهم.
خامسها: حملت «الهم» الكردي، فإذا كانت الصحافة مهنة المتاعب، فقد حملت «كردستان» ومحرروها المتاعب منذ انطلاقتها، حيث تعرضت وصاحبها للضغط والتضييق والملاحقة، من قبل السلطان العثماني وأعوانه، فاضطرت إلى التنقل خلال أربع سنوات بين مصر وسويسرا وبريطانيا.
وكما كان صاحب «كردستان» موفقا في اختيار اسم الجريدة، كذلك كان موفقا في اختيار مصر لإصدار صحيفته منها، كأول بلد عربي عرفت الصحافة بمعناها الحديث أثناء الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت الذي أصدر صحيفة (الحوادث اليومية– incidents quotidian) عام 1799، وفيها أيضا صدرت أول صحيفة عربية باسم (الوقائع المصرية) عام 1828م في عهد محمد علي باشا، ومن هنا جاء اختيار مدحت بدرخان للعاصمة المصرية «القاهرة» من أجل إصدار صحيفة كردستان نتيجة دراسة ومعرفة، فرغم التبعية الإدارية الاسمية لمصر للدولة العثمانية، إلا أنها كانت شبه مستقلة يتوارث ولاتها الحكم كالملوك، كما كانت موئلا لعدد كبير من الوطنيين المعارضين لنظام السلطان عبد الحميد الثاني الاستبدادي من مختلف مكونات الدولة العثمانية، إلى جانب عدد كبير من الطلاب الكرد الذين كانوا يتابعون تحصيلهم العلمي في الجامع الأزهر. بالإضافة إلى مناخ عام من الحرية في عهد الخديوي عباس حلمي الثاني خاصة حرية الصحافة والطباعة. وقد شجع ازدهار حرفة الطباعة ((الحكومية والأهلية في مصر بعد تولي محمد علي باشا وأسرته زمام الأمور فيها منذ عام 1805م الكثير من أصحاب المواهب من الناشرين والطباعيين من بلاد عربية وإسلامية مختلفة على المجيء الى مصر وإنشاء دور النشر والمطابع فيها.))[1].وإصدار الصحف والمجلات فيها، كجرجي زيدان الذي أصدر مجلة الهلال، ومحمد كرد علي الذي أصدر جريدة المقتبس.
وإذا كانت صحيفة «كردستان» تعد وتحرر وتصدر في القاهرة، إلا أن معظم أعدادها كانت ترسل إلى خارج مصر، فقد كان مدحت بدرخان يرسل ألفي نسخة من كل عدد من الصحيفة إلى كردستان إما بالبريد، أو عن طريق وسطاء لتوزع مجانا على الناس، وكانت دمشق ((نقطة الانطلاق لتوزيعها في جميع أرجاء كردستان، وبالأخص في كردستان الجنوبية، ومنها كانت ترسل إلى استنبول والولايات الكردية بطرق سرية وشاقة، لأن السلطات العثمانية كانت تحظر توزيع هذه الجريدة بشكل علني))[2].
أما القسم المتبقي من هذه النسخ خاصة من الأعداد الخمسة الأولى التي صدرت في مدينة القاهرة. فكانت ترسل إلى أوروبا لتوزيعها على الجالية الكردية، وعلى المستشرقين والأوروبيين المهتمين باللغة الكردية وآدابها.
ومن هنا يتجلى الدافع التنويري لمقداد بدرخان حيث لم يكن يهدف من إصدار هذه الصحيفة الربح المادي، أو الصيت والشهرة، إنما كان هدفه تنويريا أراد من خلال هذه الصحيفة بث ونشر العلم والثقافة والشعور القومي بين الكرد، لذلك نجده يكتب أكثر من مرة ((أنه يبذل في سبيل إصدار هذه الصحيفة الكثير من الجهد والمال))، ويتمنى من أمراء وزعماء الكرد المساهمة معه في دفع الكرد إلى الإقبال على العلم، واللحاق بركب الشعوب المتطورة.
[1] – (زايد) محمود، مطبعة كردستان العلمية، 2012، ص 56.
[2] – (علي)، محمد الصويركي، الكرد في بلاد مصر، القسم الخامس، صحيفة (الاتحاد)، العدد (1610) في 16/7/2007، بغداد.