غسان شربل
الحياة اللندنية – الإثنين ٢٨ أكتوبر ٢٠١٣
لم نرَ هذه المشاهد من قبل على رغم فداحة ما رأيناه. إنها أكثر خطورة ووحشية. دول وعواصم تغرق في بحر من الظلم والظلام وتسافر الى الماضي. إلى كهوف الرطوبة والعفونة والأحقاد. مسالخ مفتوحة كنا نسمّيها أوطاناً. أهرامات من الجثث. وجبال من الدم.
المشاهد مريعة فعلاً. أسقطت عواصف الربيع آخر أوراق التوت عن مجتمعاتنا. كشفت أحشاءها وما تراكم فيها من الدم الفاسد والأفكار المريضة. كان شريكك في الوطن لكنه الآن قتيلك. كنت شريكه في الوطن لكنك الآن قتيله. لا يتسع الوطن لرجلين. لا يتسع لفكرتين أو مذهبين. لستَ مواطناً. أنت مشروع قاتل أو قتيل.
لا تتهمني بالمبالغة. أنظر إلى الإقليم وتمعّن. خرائط مهددة. دول مذعورة. حكومات متآكلة. جيوش غارقة في خوفها أو في دم مواطنيها. أعراق مستنفرة. طوائف ساهرة. مذاهب مشتبكة. أقليات تداوي خوفها بممارسات انتحارية. تتسول في وطنك. أو تتسول في مخيمات الدول المجاورة. كانت لك قرية وامّحت. وفي طرقات التيه تسمع عن قوارب الموت والجثث التائهة في البحار.
لا تتهمني بالمبالغة. انتحاري ينغمس بسيارته في مقهى أو جنازة أو مدرسة. عبوات ناسفة ومسدسات كاتمة للصوت. يقتلك من يفترض أن يحميك. يغتالك من يفترض أن ينقذك.
أكتُبُ تحت وطأة الألم. في زحمة السير في منطقة المرفأ في بيروت نقر شاب على زجاج السيارة. أطلق جملة موجعة: «أنا طالب جامعي ولا أريد منك أكثر من ثمن ساندويتش». ثم كرر العبارة بعد أمتار. غلبتني الحشرية فطلبت من السائق أن يتوقف. اكتشفت أن الشاب طالب جامعي فعلاً وأنه خائف من الجوع.
قال انه حاول عبثاً العثور على عمل في بيروت. عدد السوريين كبير. لمّح إلى أن من سألهم استقبلوه بشيء من التخوُّف. ثمة من خاف أن يكون من أتباع النظام. وخاف آخرون أن يكون معارضاً جاء في مهمة. آلمه سؤال تكرر: «من أين أنت؟». عرف أن المقصود هو معرفة انتمائه المذهبي. ولم يتردد البعض في سؤاله مباشرة: «أنت سنّي أم علوي؟». آلمه السؤال الفظ. أشعره بـ «أن سورية انتهت». أشعره بـ «أن العروبة انتهت ايضاً».
روى أن أقارب له قُتلوا. تحدّث عن مجازر ارتكبها أكثر من طرف. وأن ما يُكتب عن سورية، على فظاعته، أقل مما يجري فيها. وأن توافد المقاتلين الأجانب وتوزعهم على المعسكرين عمّقا الانقسام المذهبي ودفعاه في اتجاه الطلاق الكامل. استبعدَ ان يقيم السوري بعد اليوم في منطقة لا ينتمي فيها الى الغالبية الساحقة. استبعدَ أن ينام في منطقة لا تطابق لونه.
قال إنه ينتظر فرصة للفرار إلى بلاد بعيدة. وإنه يستطيع العمل هناك في ميناء أو مقهى أو مصنع. يريد الابتعاد عن المجازر وصور المجازر. وإذا تيسّر له ذلك فسيستدعي التائهين من أفراد عائلته.
أكد أنه لا يريد البقاء في لبنان «لأنه يشبه سورية». مرّ في طرابلس في شمال لبنان ورأى السنّة والعلويين يتقاتلون فيها. يريد بلاداً بعيدة لا يقرأ فيها الصحف ولا يفهم لغة الشاشات. يريد مكاناً للنوم وثلاث وجبات.
لا يريد الشاب السوري أكثر من ساندويتش لتأجيل الجوع. لا يراهن على «جنيف-2» ولا ينتظر نتائج جهود الأخضر الإبراهيمي. لا يريد شيئاً من باراك أوباما. ولا يتوقع شيئاً من فلاديمير بوتين. ومن حسن الحظ انه لا يحفظ اسم نبيل العربي. قال انه يشعر بالذل لأن «المقاتلين الأجانب» يسبحون في دم هذا السوري أو ذاك، وكأنهم في رحلة صيد.
كسرت رواية الشاب السوري قلبي. خجلتُ من التحديق في آبار اليأس في عينيه. شاب جامعي لا يريد أكثر من ساندويتش. خفتُ أن يقفز غداً الى قوارب الموت وأن يتحول جثة تائهة في بحر أندونيسيا أو إيطاليا.