لا يمكن تشبيه زيارة المبعوث الدولي دي مستورا إلى حمص المدمّرة، سوى بقيام مبعوث للأمم المتحدة، برفقة وزراء هتلر بزيارة معسكرات «أوشفيتز» ليرى نجاح عمليات الإبادة فيها. ليس من معنى للزيارة، يالإخراج الذي حصلت فيه والدلالات الرمزية المحيطة بها، سوى موافقة الأمم المتحدة على هذا النموذج، الذي كان ثمنه حوالى مليون نازح وعشرات آلاف المفقودين والمقتولين تحت أنقاض البراميل أو بسبب الجوع، وتغيير جذري للتركيبة السكانية للمدينة، وكل هذا موثّق لدى منظمات الأمم المتحدة، ولا أحد يعرف إذا كان الرجل سأل مرافقيه عن الناس الذين سكنوا تلك الأحياء، أين هم، وما إذا كانت المصالحة قد جرت مع الحيطان المدمرة!
ربما من الطبيعي ألا يشعر دي مستورا بشيء من عدم الانسجام بين دوره ومكانته، وبين مثل هذا الواقعة، ذلك أنها خطوة متناسقة مع السياق الذي تسير عليه الأمم المتحدة، كممثلة للمجتمع الدولي في سورية، والذي يعيد إحياء التجربة التي استخدمت في البوسنة والهرسك عبر إقامة ما سمّي بالمناطق أو الملاذات الآمنة، على أن تؤمن الحماية لعددٍ من المدن البوسنية من اجتياحات الصرب، وكانت مدينة سربرينيتسا ضمن هذه الملاذات، وبمقتضى ذلك قامت قوات الأمم المتحدة بتجريد تلك المناطق من أي وسيلة للدفاع، ومن ثم وقفت عاجزةً عن التصدي للصرب الذين اعتقلوا المراقبين الأمميين، ومن ثم أغاروا على مواقع البوسنيين مرتكبين مجازر عدة أفظعها مجزرة سربرينيتسا التي راح ضحيتها نحو 8 آلاف شخص، فهل ثمة مساع لاستعادة مثل هذه التجربة في سورية؟
ثمة من يرى بأن فكرة « تجميد الصراع» التي يقترحها دي مستورا ليست جديدة في السياق السوري، وهي امتداد لتجربة «الهدنات» التي طبقها نظام الأسد في كثير من المناطق السورية، بتخطيط روسي وإشراف إيراني مباشر، كما حصل في حمص نفسها، وخطورة مثل هذا الإقرار تتأتى من كون المجتمع الدولي سلّم أخيراً بالرؤية الروسية الإيرانية لحل الأزمة، عبر تحويلها إلى حالة تمرد في بعض المناطق وإيجاد حلول موضعية لها من خلال تأمين بعض الحاجات الأساسية للمناطق المنهكة وتسوية أوضاع بعض المطلوبين في تلك المناطق، وبالتالي طي صفحة الثورة السورية بصفتها تحولاً جذرياً في قلب المجتمع، وإعادة النظام إلى سكة الحياة وتوفير كل الظروف المناسبة له لإعادة إنتاج ذاته.
اكثر من ذلك، فإن توسيع زوايا النظر إلى الموضوع وتركيبه ضمن المشهد العام للتحولات الجارية في الإقليم، يشير الى وجود رابط واضح بين عدة تفاصيل محيطة، منها مفاوضات الملف النووي بين واشنطن وطهران ونيّة مسقط إعادة فتح سفارتها في دمشق وزيارة بعض أعضاء المعارضة الى موسكو، إذ إن جمع كل هذه الخيوط من شأنه إعطاء القدرة على قراءة دقيقة للمشهد برمته، ولعل النتيجة الأولى لهذه القراءة أن الملفات الإقليمية التي ادعت واشنطن عدم خوضها مع طهران في مفاوضاتها النووية، بدأت تتصدر التفاهمات بين الطرفين، وأن الوسيط العماني صار جاهزاً، بعد إتمام اللمسات الأخيرة على النووي، لتولي ملف جديد في المنطقة، وهو الملف السوري، كما أن جزءاً من أطراف التفاوض صار جاهزاً لإعلان الصفقة في موسكو1.
في التصريف النظري لهذه السياسات، فإن معنى ذلك هو التوجه إلى الإقرار بإعادة تأهيل بشار الأسد، كمقدمة لإشراكه في جهود محاربة الإرهاب، على اعتبار أن القوة المحلية في اغلبها ستنضوي ضمن إطار التفاهم الذي يقترحه دي ميستورا، ويمكن النظام الادعاء بأن غالبية القوى المحلية قد عقدت الهدنات وما تبقى خارج هذا الإطار هي إما جهات متطرفة مثل «جبهة النصرة» أو مرتبطة بـ «داعش» التي هي طرف خارجي، وربما هذا ما يفسر المفاوضات التي يجريها النظام مع الكتائب المتواجدة في جنوب دمشق ويقترح عليها الذهاب إلى القنيطرة ودرعا، وذلك بناء على خطة مسبقة تقضي بضم مناطق شرق سورية وجنوبها ضمن خريطة القوى الإرهابية وإدماجها ضمن ضربات التحالف الدولي.
في التصريف العملي، يمكن إدراج هذه السياسة على طيف واسع من الأهداف والإستراتيجيات، فهذا الطرح يشرعن وضعية «أمراء الحرب»، وذلك انطلاقا من التفسير الدولي لطبيعة الأزمة في سورية والمائل الى اعتبارها حرباً أهلية وبالتالي تساوي المسؤوليات بين أطرافها، وليس مصادفة هنا أن تتوقف وزارة الخارجية الأميركية عن دعم اللجنة الخاصة بالتحقيق بجرائم الحرب في سورية، كما أنه يشكّل بداية تقسيم «ناعم» لسورية، إذ ينطوي هذا الوضع على ترسيم المناطق التي تحت سيطرة الأطراف وتحويلها الى عنصر تفاوضي أساسي ودائم، وهو الأمر الذي يناقض التكتيك الذي تنبني عليه المبادرة من تحويل الحالة إلى دينامية تصالحية شاملة.
المصدر : جريدة الحياة