نقلت وكالات الأنباء تصريحاً متكرراً لرأس النظام السوري، في لقاءين أحدهما مع مسؤول روسي والآخر مع وفد من الطلاب السوريين، مفاده بأن العمليات العسكرية لقواته تمر بمنعطف مهم سيؤدي إلى «انتهاء العمليات العسكرية النشطة» مع نهاية العام الحالي، بينما ستستمر ملاحقة «الخلايا النائمة» بعد ذلك التاريخ، أو سيعاود النظام سيرته في «مكافحة الإرهاب» وفق نسخة أخرى منه. تصريحات عدّها المتابعون متفائلة جداً قياساً بالمعطيات الميدانية التي تؤكد التقارير الغربية أنها لن تتغير جذرياً خلال مدة قريبة، وتؤكد المجريات اليومية للحرب حتى الآن أنها كرّ وفرّ لا يتوقفان بين طرفيها.
التركيز على الشطر الأول من التصريح بسبب راهنيته أهمل الجزء المتعلق باستمرار ملاحقة الخلايا النائمة، مع أنه قد يكون الفحوى الأهم إذ ينذر بأن استعادة النظام سيطرته على الأراضي لن تكون نهاية المطاف، وأن حربه لن تنتهي في المدى المنظور حتى إذا انتصر عسكرياً. تعبير «الخلايا النائمة» معطوفاً على نظام أمني متغوّل يعني تماماً حرباً بلا نهاية على مجتمع الثورة، وأن النظام لا ينوي إعادة الحياة الطبيعية إلى البلاد، ولا يُستبعد أن يكون سعيه فقط إلى الانتصار الذي يعيد تكريس وجوده دولياً مع استمرار الحرب التي لا بديل لها داخلياً.
النقطة المركزية، التي يبدو النظام على وعي بها، هي أنه تحوّل تماماً إلى نظام حرب، ولم يعد بمقدوره على المدى المنظور حكم البلاد سلماً.
هو يدرك قبل غيره الثمن الباهظ الذي جعل السوريين يدفعونه خلال زمن الثورة، وإذا تجاوزنا الثمن الباهظ من الدماء والأحقاد فما يعيه النظام أن حجم الدمار الذي ألحقه بالبنية التحتية سيجعل من العصيّ عليه الوفاء بمتطلبات الحكم. سياسة التدمير العام والممنهج هي بالأحرى سياسة من فقد أمله تماماً بالبقاء، لا يجوز هنا مقارنتها بالسياسة الروسية في الشيشان، لأن دولة عظمى مثل روسيا كانت قادرة على الوفاء بمتطلبات إعادة الإعمار، فضلاً عن أن التدمير طاول جزءاً ضئيلاً من الاتحاد الروسي.
لقد قيل مراراً إن بقاء النظام هو وصفة للحرب، وقُصد بذلك عدم استعداد غالبية السوريين للقبول به، لكن الأقرب للصواب القول إن بقاءه وصفة حرب لأنه لا يستطيع بعد الآن إلا أن يكون نظام حرب. الحديث عن حرب طويلة على الخلايا النائمة ضربة يوجهها النظام لأنصار السلمية أو لقسم من المعارضة الداخلية الذين يراهنون على تفكك النظام في حال تحقيقه النصر أو تخلت الثورة عن الخيار العسكري؛ الرسالة هنا واضحة، فالنظام الذي بدأ الحرب لن يوقفها، ولا ينبغي لأحد المراهنة على العكس، وهو أيضاً رسالة صريحة إلى دعاة الحل السياسي الدوليين مفادها خطأ المراهنة على تغييرات في بنيته.
إن واحداً من العوامل المهمة التي تدعم رغبة النظام في إدامة الحرب هو فساده الذي لا يقدّره الحلفاء والخصوم حق تقديره، ومن المرجح أن الحلفاء تحديداً قد عاينوا مؤخراً حجم الفساد الذي ينخره حتى على صعيد مؤسساته الأمنية والعسكرية، وقد دفعوا ثمنه باهظاً مادياً، وأيضاً عسكرياً في بعض الجبهات التي يديرها تجار الحرب من جهة النظام. انتقادات الحلفاء التي ظهرت إلى العلن في الأيام الأخيرة تُبين أنهم ضاقوا ذرعاً ببنية النظام التي لا تساعدهم على حسم المعركة، لكن في المقابل لا خيار لهم حالياً سوى دعمه بكل رموزه وفساده، ولأن النظام يعي هذه الحقيقة أيضاً فقد كلّفهم حجماً كبيراً من المساعدات المالية لتمويل الحرب، ولم يستخدم شيئاً من أرصدته السرية الضخمة المتأتية من الفــساد، بل لعـــل تلويحــه بحرب طويلة ابتزاز مسبق للحلفاء.
يروي باتريك سيل في كتابه «الأسد والصراع على الشرق الأوسط» أن حافظ الأسد كان على خلاف مع رفاقه الراديكاليين إثر هزيمة حزيران (يونيو) 1967 في شأن العلاقة مع الدول العربية «بخاصة الخليجية منها»، وكان واحد من الانتقادات التي يرويها على لسانه مقاطعة سوريا للقمم العربية وهي قد تكون مناسبة لتلقي الدعم العربي. بعد انقلابه على رفاقه أقرّت أول قمة عربية دعت إليها سورية ومصر، وهي قمة الجزائر عام 1973، تقديم كل أنواع الدعم المالي والعسكري للجبهتين السورية والمصرية، وأكدت القرارات نفسها قمة الرباط بعد سنة، ثم عاد النظام السوري لينال دعماً مالياً بموجب قرارات قمة القاهرة في 1976 تحت غطاء تمويل قوات الردع العربية. العودة إلى تلك الوقائع تؤكد أن النظام قد تعيّش مدة طويلة على المساعدات التي تأتيه بصفته نظام حرب إقليمياً، وعندما انقطعت المساعدات الخليجية «كانت الإمارات العربية آخر دولة توقف المساعدات بعد نحو عقد من إقرارها» لجأ النظام إلى سياسة إقامة المحاور المناهضة للخليج، وليس من باب المصادفة توجهه إلى البلدين النفطيين الثريين ليبيا والجزائر تحت يافطة «جبهة الصمود والتصدي»، مثلما ليس من باب المصادفة لجوؤه إلى التحالف مع إيران «النفطية» بعد انهيار تحالفاته السابقة تحت شعار الممانعة.
شهدت السنوات الثلاث التالية على حرب تشرين الأول (أكتوبر) انتعاشاً اقتصادياً استهلاكياً عاماً، قبل أن ينقض وحش الفساد على المساعدات القادمة، وقبل أن يتحول النظام بشكل منهجي إلى تاجر حرب مع دخول القوات السورية إلى لبنان، ولا يعلم السوريون بدقة مصير تلك المساعدات لأن البلاد عانت ضائقة شديدة في حقبة الثمانينات مع تغول متزايد للأجهزة الأمنية إثر الانتصار على الإخوان المسلمين. غير أن بعض دول الخليج كان أكثر تنبهاً إذ اشترط في المساعدات، التي عادت إلى التدفق مع اشتراك النظام في حرب تحرير الكويت، ربطها بمشاريع إنمائية وخدمية محددة، وأحياناً بإشراف من الجهة المانحة.
بناء على ما سبق، ليس مستبعداً ألا يتلهف النظام لتحقيق انتصار نهائي ما دامت الحرب تحقق له قدراً أكبر من المكاسب، وما دام الحلفاء على استعداد لتمويل الحرب، وليس مستبعداً تعاونه مع بعض أمراء الحرب في الجهة المقابلة عندما تتلاقى مصالح الفساد.
السطور السابقة تـجاهلت عمداً تكسّب النــــظام من القضية الفلسطينية، لأنها ظلتعلى الدوام ملجأ وتجارةً لمن لا تجارة له.