ينتابني شعور بالأسى – و أنا أحد المشتغلين في حقليّ الثقافة و السياسة الكردية – حين أجد الواقع المزري الذي يسيران فيه , خاصة و أن المشهد الثقافي لأية أمة ٍ هو النتاج التاريخي و الحضاري الذي تتحلى به و يعتبر الصورة المثلى لها أمام الآخرين ..
عانت الثقافة الكردية في سوريا من محاولات الطمس و عدم الظهور خلال عقود طويلة من الكبت و الاستبداد , و ما ظهر منها كان بجهود شخصية من مثقفين تحدوا الحكومات المتعاقبة من عمليات طمس لغتهم و ثقافتهم , و كان المشتغلون بها يعدّون على الأصابع تجمعهم المناسبات القومية و الثقافية و ظروف المعاناة و القهر و الطموحات المشتركة , دون أن تجمعهم انتماءات تنظيمية أو تفرقهم الأحزاب السياسية .
و جاءت الثورة السورية ليتحرر الكرد من وطأة القلق الوجودي و مخاوف الانتماء لتنظيم خارج نطاق الأطر المحددة في الدولة , فأعلنت الأحزاب السياسية عن نفسها وتشكلت التنظيمات الثقافية التي سرعان ما أصابتها عدوى الانشطار الثقافي أسوة بالانشقاق السياسي , فانقسمت عن بعضها وغدا التفكك والبحث عن العثرات شغل الكثير من المنتمين إليها حتى أصبحنا نرى نوعاً من المثقفين المزيفين الذين يتظاهرون بالانتساب إلى قضايا ليس لقناعتهم بصحتها , بل لأنها في تقديرهم واعدة و لها مردود هام وتسير في اتجاه الرياح السائدة , توجههم مصالحهم لا مبادئهم و إيمانهم كونهم لا يؤمنون بشيء سواها .
وفي ظل هذا اللغط الثقافي والزيف الإعلامي شكل البعض منهم عملة ثقافية مزورة من أجل ضمان بقائه في منصات الإعلام الباحثة عن حالة غير مستقرة , بعد أن علا نجمهم في سوق العثرات في مجتمع يعج بالفوضى الفكرية ويتسم بالانهيار القيمي والأخلاقي ناهيك عن عدم وجود أسس للانتماء التنظيمي , وسهلت وسائل التواصل الاجتماعي من تكاثرهم وبث سمومهم بعيداً عن التزامهم بمبادئ الأمانة الفكرية .
و لا شك أن الصراع الأيديولوجي بين أقطاب السياسة الكردية شمالا ً و جنوباً له الأثر العميق في نشوء و تفكك الحالة الثقافية الكردية في سوريا ,على مبدأ أنه لا توجد منظمة حزبية تناور في السر و العلن لترقية مثقفين يعملون لصالحها مقابل أجر مادي كان أم معنوي من أجل توجيه الجمهور وإمكانية السيطرة عليه .
و مع إتاحة وسائل التكنولوجيا الحديثة لأشباه المتعلمين من الولوج إلى الميدان الثقافي و العمل فيه , فإنه يتحتم علينا عدم اعتبار كل متعلم مثقفاً و لا كل منتج للثقافة مثقفاً , بحيث يكون الإنجاز لديه مجرد عملية حسابية دون أن يعي المثقف دوره و مسؤوليته تجاه الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها , حتى يصبح لسان حالها و صداها الإعلامي الناشر لمبادئها كما يقول العالم الايطالي ” غرامشي ” .
نخلص مما سبق بأن الحقل الثقافي كما باقي الجوانب الأخرى في مأساة الكورد الكبرى؛ يعاني خللاً واضحاً , لا مناص من الرجوع إلى اللبنة الأساسية؛ نقصد بها الجانب الثقافي، فلو تم رأب الصدع، وتداركنا علله من خلال أكفّاء لهم القدرة على معالجة تلك الأدران التي تفشت في نسيج هذا الحقل الحيوي الهام نكون بذلك خطونا بخطوة إيجابية إلى حيث الإضطرابات الأخرى التي يعاني منها الكورد!
إذن مآل ما نشاهده من فوضى , وصراعات وتخبط وشرود يعود إلى فساد الحقل الثقافي أولاً, والذي تمكنت منه ثقافة وجهات غير أمينة ؛ تحاول قدر جهدها أن تقصي الشرفاء من هذا المشهد البالغ الأهمية, لتتفرد هي بإملاء رؤيتها المغرضة التي لا تخلو من أهداف وأجندات تخدم أطراف أخرى أكثر مما تخدم الكيان الكوردي ( ككل ) لو لم تتكاتف كل الجهات وتتحد على مبدأ الأمانة ومن ثم العمل على أن تخرج من هذا التيه، لا فائدة مما تقوم بعض الجهود الفردية..
أكثر من يعاني من هذه الأزمة التي يعيشها الكورد وعلى جميع الأصعدة؛هو المثقف الحقيقي الذي بات في معاناة حقيقية ، فضلاً عن الاغتراب والذهول والألم وهو يضرب بأكف الخيبة والأسف!!