كان تمديد المفاوضات النووية خبراً جيداً أو سيئاً في الكثير من العواصم والأوساط، وفق التوقعات المسبقة لدى هذا الطرف وذاك لانعكاسات الاحتمال الآخر، وهو إعلان التوصل إلى اتفاق. وعلى عكس المرات السابقة حين كان الجانب الإيراني يتمسّك حتى اللحظة الأخيرة بضرورة إنجاز العمل لإخراج برنامجه النووي من هذا الجدل الدولي، فقد بادر هذه المرّة إلى طلب التمديد متعجّلاً التوافق عليه، فيما كان الطرف الآخر، خصوصاً الأميركي هو الذي راهن على «اختراق» في ربع الساعة الأخير قبل انقضاء المهلة. لماذا انقلبت الأدوار، وما الذي جعل طهران تظهر كأنها خرجت «رابحة» من هذه الجولة على رغم استمرار العقوبات، وهل يعني ما حصل أن الإيرانيين فضّلوا وقف التفاوض عند النقطة التي بلغها على أن يقدموا على تنازلات قد تتسبب بانقسام داخلي لديهم؟
أسئلة أخرى كثيرة من دون إجابات تطرحها هذه النهاية الهادئة لمفاوضات زاد صخبها في الأيام الأخيرة وكان مفهوماً أنها اقتربت مما سمّي «لحظة الحقيقة»، أو بالأحرى أوشكت على تحقيق أهدافها، لكن حسابات طهران وقراءتها للموقف الأميركي وللتوازنات داخل مجموعة الـ5 + 1 ما لبثت أن أجهضتها قبيل ولادة الاتفاق. فهل هذا مجرّد هروب من التنازل، أم إنه سعي إلى تغيير التكتيك ومتابعة التوتير الإقليمي بل تصعيده، بالتالي دفع القوى الدولية تحديداً أميركا إلى خفض مطالبها وضغوطها. ثمة معطًى ما، قد يكون أميركياً أو روسياً، ألزم الإيرانيين بفضيلة العناد وأقنعهم بشراء مزيد من الوقت ومتابعة إزكاء الحرائق الإقليمية.
وعلى افتراض أن الإيرانيين كانوا مستعدّين فعلاً لتقديم التنازلات المطلوبة، وأنهم لم يتلقوا أي ضمان بأن الكونغرس (وإسرائيل) سيمرّر الاتفاق، فإن هذه عقدة كانت وستبقى ماثلة، ولا يمكن اختبارها إلا بـ «اتفاق صحيح» يمنح إيران إمكان تشغيل برنامج نووي سلمي ويحول دون حصولها على سلاح نووي، وإذا وجد اتفاق كهذا، فمن شأنه أن يلغي العقوبات ويفكك تضامن القوى الدولية، وأن يعزل واشنطن إذا عرقلته ويضعف قدرتها على حشد أي موقف أو عقوبات جديدة ضد إيران. أما الخيار المضاد فيؤدي إلى النتيجة نفسها، بل إلى أسوأ منها، أي أن عدم وجود اتفاق كهذا يمدّد مهمة الموتورين في الكونغرس واللوبي الإسرائيلي ويشحذ شهيتهم للابتزاز. والحال أن مثابرة المفاوض الإيراني على المناورة تعاود تغذية الشكوك وتثبط عزم الدول الغربية المؤيدة لرفع كاملٍ للعقوبات.
في أي حال أتاح تمديد المفاوضات للرئيس حسن روحاني أن يوجّه «خطاباً إلى الأمة» ليقول بين السطور «لم نتنازل إذاً لم نفشل، وسنواصل التفاوض». أما الوزير جون كيري، فإن أفكاره الأولى كانت لرئيسه الذي فوّت لتوّه فرصة «انتصار ديبلوماسي» يحتاجه، وكانت أيضاً لطلب «دعم» الخصوم الجمهوريين للمفاوضات المقبلة فيما هم يشحذون السكاكين ويلوّحون بعقوبات إضافية لإيران بسبب مماطلتها. ولا شك في أن وقع خبر التمديد كان سيئاً في كل العواصم الإقليمية، لأنه ببساطة يعني تمديداً وتأجيجاً للأزمات التي كانت لإيران يدٌ طولى في إشعالها. فالأرجح أن عدم التوافق الأميركي – الإيراني على الملفات السياسية هو ما أفشل المفاوضات على البرنامج النووي، ولو حصل تنازل أميركي في مسقط لحصل تنازل إيراني في فيينا. لكن، من يدري؟ فقد يكون التنازل حصل وما التمديد سوى شراء للوقت بغية إعداد الإخراج المناسب له.
لا بدّ من أن الحدث النمسوي تُرجم في صنعاء تأجيلاً لانفراج داخلي كان صعباً في الأساس، وفي بيروت تمديداً لأزمة تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية، وفي المنامة تسويفاً متوقعاً من المعارضة لأي حوار وطني، وفي بغداد إبطاءً محتملاً لـ «الانفتاح» عربياً… لكنه استقبل بارتياح في دمشق التي ترى في أي اتفاق نووي نذيراً بميل نحو تسويات من جانب إيران قد لا تكون في مصلحة أشخاص النظام. أما في إسرائيل فلم يخفِ بنيامين نتانياهو ترحيبه بفشل المفاوضات، قائلاً إن «هذه النتيجة أفضل بكثير» من دون أن ينسى التذكير بأن إسرائيل «ستحتفظ دائماً بحق الدفاع عن نفسها»، ما يعني أنه سيشارك جمهوريي الكونغرس في الضغط على أوباما.
وقياساً إلى تجربة نحو عشرة أعوام من التفاوض، فإن إيران كانت تعوّض كل فشل وتأخير في رفع العقوبات بمزيد من التأزيم والتدخل في محيطها العربي، وأحياناً باشتباك واسع أو محدود مع إسرائيل عبر «حزب الله» في لبنان. واستناداً إلى شهادات مصادر عدة، فإن طهران لم تعد قلقة على برنامجها النووي الذي قدّرت مسبقاً، وقبل دخول المفاوضات، ما يمكن أن تخسره أو تربحه فيه، وإنما هي مهتمّة حالياً بمواءمة تنازلاتها التقنية في هذا الملف مع المكاسب السياسية التي خططت لتحصيلها في أي صفقة مع الولايات المتحدة تتعلّق بنفوذها الإقليمي. ولديها نموذج تستند إليه في العراق، حيث استطاعت بناء «تفاهم» مع إدارة جورج بوش الجمهورية، ثم حققت أكثر إنجازاتها مستفيدة من ركاكة سياسة الإدارة الديموقراطية والاستضعاف الإسرائيلي لأوباما شخصياً. في الحالين نجحت في استثمار حرب بوش على الإرهاب وعداء تزايد في أميركا حيال العرب بعد الهجمات الإرهابية عام 2001. وعلى رغم مساهمتها المباشرة في نشأة التنظيم الذي أصبح «داعش» فإنها تخوض الحرب عليه بواسطة ميليشياتها العراقية مستدرجة الأميركيين إلى التعايش مع دورها أو مواجهة قدراتها على تخريب الحرب أو التشويش عليها.
كان أكثر ما لفت المفاوضين في فيينا أن التشاور الثنائي، الأميركي – الإيراني، زادت وتيرته على نحو غير مسبوق، وخلافاً لما رأوه في أيٍّ من جولات التفاوض. والسائد أن الجانبين وجدا نفسيهما – أوباما إزاء جمهورييه وروحاني بمواجهة متشدديه – في أشد الحاجة إلى النجاح، لذلك فإن حرص الوزيرين جون كيري ومحمد جواد ظريف على عدم الإقرار بالفشل كان وراء القول إن «تقدماً جوهرياً» قد أحرز من دون أي توضيح، وكذلك وراء اعتماد صيغة تنفيذ «خطة العمل المشترك» للإيحاء بأنهما تخطيا الخلاف وكل ما يلزمهما الوقت الكافي لصوغ ما اتفقا عليه. هكذا، حرص روحاني على القول إن المفاوضات «ضيّقت الفجوات وقرّبت بين المواقف». وقبل ساعات من ذلك كان البيت الأبيض لا يزال يشير إلى وجود «فجوة كبيرة». فما الذي أدّى إلى تجسيرها؟ وما الذي دفع روحاني إلى استخدام لغة انتصارية: أهي تعهدات/ تنازلات أميركية قدّمها كيري في الملفات الإقليمية، وعلى أساسها باتت إيران تقول بثقة، وعلى غير عادة، أن المفاوضات ستفضي حتماً إلى اتفاق؟ أم إنهما يتوقعان «اختراقاً» ما لدى معاودة التفاوض خلال الشهر المقبل أي قبل شروع الكونغرس في العمل بغالبيته الجمهورية، أو في آذار (مارس) 2015 قبل أن يتمكّن من تمرير مشروع عقوبات جديدة لإيران؟
الأكيد أن تغييراً جدياً طرأ على أداء كيري – ظريف وعلى علاقتهما، وطالما أن لدى كلٍّ منهما هامشاً ضيقاً أو معدوماً للتنازل في الشأن النووي، فإن المجال المتاح أمامهما للتراضي هو الملفات الإقليمية، وعلى حساب العرب. لكن أين وكيف؟ وهل تظهر النتائج في خطة «تجميد الصراع» في سورية، أم في لبنان أو اليمن أو البحرين؟ سيكون سلوك طهران في المرحلة المقبلة ذا دلالة، وربما كانت أولوية التوافق معها هي التي قلّصت حظوظ التفاهم بين جو بايدن والرئيس التركي. ليس من عادة واشنطن أن تهتم بـ «الأضرار الجانبية» عندما تتأهّب لعقد أي صفقة سياسية، بالتالي فهي لا تضع ضوابط ولا تراعي التوازنات تجنباً للانفلاتات. وهذا يناسب الأسلوب الإيراني للتصرف كمن أطلقت يده للتصرف في الإقليم.