قبل 34 سنة، وفي ظلمة الليل، هاجمت قوات صدام بيوت مواطنين عراقيين أباً عن جد، لا لذنب ارتكبوه سوى أنهم ينتمون إلى قوميتهم الكردية ومذهبهم الشيعي، كي ينتقم البعث من مواقفهم التاريخية المشرفة، بدءاً بموقفهم الثوري إزاء ردة شباط (فبراير) 1963 ضد حكم عبد الكريم قاسم الوطني، مروراً بمواقفهم القومية الوطنية من الثورة الكردية منذ اندلاعها في أيلول (سبتمبر) 1961، فقد دشن البعث عنصريته الدموية التاريخية، بعد تسلمه السلطة عام 1968، بتهجير أكثر من 70 ألف عائلة كردية إلى ايران الشاه في شتاء 1970-1971، بحجة دعمهم اليسار العراقي وعدم إيمانهم بمبادئ البعث والثورة وخروجهم في تظاهرات عارمة تأييداً لاتفاق آذار (مارس) 1970 في ساحة التحرير ببغداد، وانخراطهم الواسع في التنظيمات الديموقراطية والجماهيرية للحزب الديموقراطي الكردستاني.
ولم ترضِ تلك الحملة الظالمة النزعة العنصرية- الشوفينية للبعث وللديكتاتور، لا بل تجاوز في غيه فأصدر أمراً بجمع مئات من تجار العراق في قاعة الشعب في بغداد يوم 7/4/1980 بحجة منحهم إجازات استيراد جديدة، احتفالاً بميلاد حزب البعث. وكان أكثر من 400 تاجر من الدرجة الأولى من الكرد الفيلية، في تلك القاعة التي ضمت حوالى 900 تاجر عراقي من حاملي هوية غرفة التجارة من الفئة أ. افتتح الاجتماع طه ياسن رمضان بخطاب مسموم عنصري، ثم أوعز إلى جلاوزته بإخراج التجار من الأكراد الفيليين من الباب الخلفي لقاعة الاجتماع. وتوجهت بهم الباصات على الفور إلى الحدود العراقية الإيرانية لطردهم من وطنهم العراق وهم لا يحملون إلا هوياتهم ومفاتيح سياراتهم. ثم تم إسقاط الجنسية العراقية عنهم وعن نصف مليون كردي فيلي آخر بموجب قرار فريد من نوعه صادر من مجلس قيادة الثورة المنحل رقم 666 المؤرخ في 7/5/1980 والمنشور في جريدة الوقائع العراقية الرسمية رقم 2776. وتم تجريدهم من جميع الممتلكات والبيوت والوثائق الثبوتية وشركاتهم ومتاجرهم العامرة ومصانعهم المنتجة، وحجزوا مئات الآلاف من العوائل الكردية الفيلية في بغداد والكوت وخانقين والحي وبدرة وجصان والبصرة وديالى وميسان والكوفة والناصرية خلال أشهر وجمعوهم بطرق همجية لا مثيل لها في التاريخ، في سجون ومعتقلات النظام.
قيل الكثير عن تلك الحملة الوحشية التي طاولت أكثر من 600 ألف من المواطنين الأكراد الفيليين في العراق، كما استغل كثيرون من السياسيين في بغداد والإقليم هذا الملف لأغراض حزبية وانتخابية موقتة، وأداروا ظهرهم للأكراد الفيليين عند ترتيب القوائم الانتخابية والوظائف الحكومية، وبشكل خاص في كردستان، وتنكر كثيرون من السياسيين الأكراد المعروفين للأكراد الفيليين، من خلال طروحاتهم الطائفية المقيتة، وتناسوا تضحياتهم في الحركة الكردية منذ الأربعينات وحتى اليوم، فلم يتم إنصافهم، على رغم صدور قرارات عادلة لمصلحة الأكراد الفيليين من المحكمة الجنائية العراقية العليا التي حاكمت جنرالات صدام ونظامه الدموي، فصدر القرار التاريخي في 29/11/2010 الذي يعتبر جريمة إبادة الأكراد الفيليين إبادة جماعية. ولعب القضاة والمحققون الشرفاء وبعض موظفي الإقليم، وبشكل خاص القاضي عبد القادر الحمداني، أدواراً مشكورة في المحكمة وخلال التحقيقات، فتم تبني القرار من قبل مجلس الوزراء بشكل جدي وفعال، لكن للأسف لم تقدم الحكومة العراقية على تطهير الدوائر العراقية من الموظفين البعثيين الفاسدين المعشعشين في دوائر الأحوال المدنية والداخلية ودوائر العقارات، فبعض هؤلاء الموظفين البعثيين هم الذين نفذوا عمليات التهجير بدقة عنصرية متناهية وفي أوقات قياسية مذهلة ولا زالوا يفسرون القوانين المنصفة الصادرة من المحكمة الجنائية والمصادقة من مجلس الوزراء، حسب مقاسات البعث. تلك المجموعات الفاسدة سرقت الأموال النقدية والحاجيات الثمينة من بيوت المسفرين أثناء المداهمات البربرية، واعتدت حتى على بعض القاصرات، وسكنت بيوتهم بعد شرائها بأثمان رمزية، ولا زال البعض منهم يحتل تلك البيوت والمتاجر والمعامل والمكاتب في مناطق مختلفة من البلاد.
كان من المفروض على الحكومة الاتحادية التي صادقت على قرارات المحكمة الجنائية العليا، والمؤسسات القضائية والجنسية ودوائر الطابو، أن تعمل بجد لاستعادة حقوق الأكراد الفيليين الذين اقتلعوا من أرض وطنهم العراق ظلماً، فخلال السنوات العشر التي مضت على سقوط الصنم، لم تقدم الحكومة على محو آثار التعسف الذي لحق بهم بسبب الموظفين من بقايا النظام المقبور، لكن الحكومة سارعت بإعادة بعض مرتكبي تلك الجريمة إلى وظائفهم.
أما الأحزاب الكردية، فهي الأخرى لم تعمل على تفعيل ملف التهجير القسري للأكراد الفيليين، فظلت قضيتهم الإنسانية والقومية العادلة منسية من الجميع إلى أن يحين موسم الانتخابات، إذ لا توجد حتى غرفة بسيطة في وزارة الأنفال في حكومة الإقليم في أربيل ناهيك بمديرية أي موظف، لمتابعة ملف الأكراد الفيليين الذين هجروا بسبب انتمائهم القومي. ولم يتم تخصيص متر واحد في كردستان للأكراد الفيليين الهاربين من الجماعات الإرهابية في بغداد. علماً بأن الوزارة تصرف ملايين الدولارات للكشف عن المقابر الجماعية للشهداء الآخرين. والأمر المدهش هو أن بعض الأكراد الجهلة في كردستان يدعي أن الكرد الفيليين لا يصوتون للقائمة الكردستانية، وقد نسوا أو تناسوا النتائج الباهرة التي حققتها القائمة الكردستانية نتيجة انخراط الأكراد الفيليين المهجرين في طهران وكرمشاه وإيلام والسويد وبريطانيا في انتخابات عام 2005.
نطالب الحكومة بأن تستعجل إنصاف ضحايا التهجير القسري للفيليين واستعادة حق مواطنتهم العراقية والوثائق الثبوتية وتعويضهم عن الخسائر الجسيمة التي حلت بهم في العهد الصدامي، وإصدار الجنسية العراقية أسوة بمواطني كل مكونات الشعب العراقي. كما نطالب الحكومة العراقية بنشر الوثائق الرسمية الصادرة عن حكومة صدام المتعلقة بتهجير الأكراد الفيليين منذ شتاء 1970 وحتى سقوطه في 9/4/2003، ومعاقبة الذين شاركوا في تلك الجريمة الكبرى، بعد أن اعتبرها القضاء العراقي عملية إبادة بشرية.
وعلى الحكومة العراقية وحكومة الإقليم متابعة ملف اختفاء أكثر من عشرة آلاف شاب كردي فيلي، لم يعثر على رفاتهم في صحاري محافظة المثنى وجنوب البلاد وغربها، والعمل على إعادة الممتلكات لأصحابها الأصليين، فكفانا الكلام المعسول، فلقد مضى أكثر من 10 سنوات ولا يزال الإجحاف بحق الأكراد الفيليين مستمراً، فإلى متى يظل هذا الملف الإنساني الحزين مادة لـ “الخطابات الرنانة” لبعض السياسيين في بغداد والأقاليم، والتي شبعت منها عوائل الشهداء المؤنفلين من الأكراد الفيليين؟ إلى متى يبقى هذا الملف تائهاً في دوائرهم ومجالسهم الخاصة واجتماعاتهم وبرامجهم الانتخابية المتكررة؟
واخيرا نوجه سؤالاً بسيطاً إلى المسؤولين في بغداد والأقاليم: لماذا لم يتم العثورعلى قطعة واحدة من الهياكل العظمية الطاهرة لأكثر من عشرة آلاف شهيد كردي فيلي، والغالبية العظمى منهم من الطلبة الشباب والمحامين والموظفين وحتى العسكريين، في المقابر الجماعية المنتشرة في جنوب العراق وغربه.
عادل مراد – السليمانية (العراق)