شفان ابراهيم: عن العدالة الاجتماعية

Share Button

1إبتلينا كشعوب شرقية، بعادات مقيتة مرضية، تركز على سوداوية الغد المجهول، تزرع في داخلنا كرهاً لحريتنا ومستقبلنا، لنخلق طاغية من لاشيء فيحجب عنا تفكيرنا، ونصنع طواغيتنا بأيدينا، نزرع الخوف في داخلنا ونرسم الرعب على وجوه أبنائنا، ننسف أي بزور عدالة قد تحملنا نحو الآدمية، وما أن ننتهي من توصيف «براغيثنا» كطواغيت جبارة حتى نبدأ ببلورة الابتلاء بالظالمين وبحاكم يسرق البلد والشعب والأرض والخبز، ونعبد لآخر الطريق ليتسلط على رؤوس العباد، بعد أن نسانده بانقلاب عسكري ليخلصنا من طاغية وينصب نفسه الرب الأعلى علينا، دون أن نستبعد من دائرة القرف هذه حكاماً يدعون الديمقراطية الزائفة، ويتسلقون على أكتاف السلطة والحكم بانتخابات مزورة، وبنسبة مئوية كاملة، ويتصرفون بالبلد وثرواته كإرث لهم ولأبنائهم وحاشيتهم، حين ذاك تُفتقد العدالة وتنسف المساواة، وتفنى أي صورة من صور التواجد الآدمي للمواطن.

أين أحصل على العدالة
إن جميع الدراسات والأبحاث تركز على حتمية الواجب الأخلاقي في التعامل مع القضايا التي تمس الشعب مباشرة، لأن العدالة واجب صارم، ويستحيل تجاوزها أو التغاضي عنها، أو محاولة تناسيها لأي سبب كان، لذلك لابد من التركيز على طبيعة علاقات الناس بدل التركيز على هدف واحد صارم وقاس، إذ يكون من حق الشعوب أن تناضل في سبيل ابتكار أفكار جديدة عن العدالة تتناسب وطبيعة الحالة الاجتماعية التي يعيشونها، والتدليل على أن العدالة هي بالأساس مسألة تعامل بالمثل وتهدف جميع الممارسات التي تركز على العدالة وأهميتها إلى الإطاحة بجميع الأساليب القديمة والبالية، وحينئذ تجد العدالة الاجتماعية طريقها إلى التنفيذ وتسري بين الجميع، والمجتمع الشاب يستطيع أن يعيد تشكيل الكيان السياسي الاجتماعي العصري، الذي يؤسس لحالة بعيدة عن البيروقراطية المملة ويؤسس لوضعية يكون الجميع فيها متساوين في القيمة الاعتبارية، بل ولابد أن يتساووا في القيمة الاجتماعية وتوزيع الثروات، لأن الحالة الاقتصادية لأي بلد ناجح وراق ما هي إلا ناتج اجتماعي وليس تراكم لنواتج الأفراد كل على حدى، وهذه العدالة ليست بحاجة إلى حكام لتطبيقها، بل بحاجة أولاً وقبل كل شيء إلى رغبة شعبية وحكومية في تفعيلها، لأننا كبشر نمتلك أرشيفاً كاملاً وضخماً من الآراء والأفكار عن مفهوم العدالة وصيرورتها وآلية ديمومتها، تعود بنا إلى الماضي السحيق وربما إلى ما قبل اكتشاف التعبير بالكتابة الأبجدية.

من البحث إلى الإحساس بالعدالة
ربما كان الاعتقاد أن أعمال وأفعال الناس تستهدف وبالدرجة الأولى تلبية متطلباتهم ومصالحهم الخاصة وتحديداً تصرفات السياسيين والمشاهير ورجال الأعمال، بهدف تحقيق مكاسب شخصية على حساب المصلحة العامة، لكن في الجانب الآخر من المعادلة فإن قليلاً من التدقيق في آلية تنفيذ هؤلاء البعض لمشاريعهم قد تنطوي على حقيقة مفادها أن هذه الأفعال تؤدي إلى الخير العام المترافق مع المصلحة الخاصة أيضا، ويكون من السخف بمكان تصور مطالبة أحدنا للآخر القيام بفعل جمعي دون أن يُعتبر هو نفسه جزءاً من هذا الفعل الجمعي وإن اختلفت نوعية وحجم استفادته الذاتية، وعلى سبيل المثال يرى توماس هوبز في كتابه الشهر (الليفياثان): «إن القصد من وراء الأفعال الخيرة التي يقوم بها كل إنسان طواعية لابد أن يكون نوعاً من المنفعة التي تعود عليه هو بالذات» ثم أكمل هذه الفكرة من بعده أدم سميث في كتابه ( بحث في طبيعة وأسباب ثروة الأمم) على أن الأفعال التي تؤدي لمنفعة عامة وإن كانت ذات خصوصية أو منفعة ذاتية، فإنها لا تعتبر أفعالاً أنانية ولا شخصية فليس من الإحسان من جانب القصاب أو الخباز أو غيرهما أن يتوقع أحدنا أن هؤلاء يعملون لكي نتناول وجبة عشاء جيدة، إنما ذلك يعود إلى حرصهم على مصالحهم ومنفعتهم الخاصة، وليس هناك أي دافع إنساني في ذلك مع ذلك فلا يمكن أن تعتبر هذه الأفعال أنانية طالما تعود بالنفع على الآخر وعلى صاحب العمل معاً. ولعل ما ذهب إليه ريتشارد الكسندر في كتابه (بيولوجيا الأنظمة الأخلاقية) في حديثه عن التطور البيولوجي واستحالة تفهمنا للسلوك البشري قبل تفهم المجتمع على أنه «تجمع من الأفراد الذين يسعون إلى تحقيق مصالحهم الذاتية». مع كل ذلك فإن العصر الحديث قد شذب هذه الحالات والاحتمالات التي تصر على وجود مصلحة ذاتية شخصية في الأعمال الجمعية فحلت عوضاً عنها نظرية الاختيار العقلاني حيث يفسر السلوك الإنساني عبر أهداف أي فرد من القيام بأي عمل وهذه الأهداف هي التي تقيم وتعبر عن مدى المنفعة الأنانية من عدمها في أي فعل إضافة إلى نمطية ترتيب هذه الأهداف وأولوياتها، من جهة ثانية فإن الخيارات البديلة المطروحة للفرد تعبر بدورها عن أهمية هذه الأفعال من جهة ثانية، دون أن نغفل الأسباب المؤدية إلى الموقف المتخذ من قبل فرد تجاه قضية أو حالة، وهنا يكون التصرف العقلاني في آلية اتخاذ أي فرد لأي موقف حيال أي حالة لتحقيق ما يسعى إليه الفرد بأمثل الطرق، وهنا يمكننا القول أن هذه المصلحة الذاتية المروجة لها على أنها أنانية، تنتفي أمام الاختيار العقلاني بوضعيته المشذبة وتصبح السمة الأبرز للنموذج المعياري للسلوك البشري، وبالمقابل فإن الفشل في اتخاذ الموقف الذي يرتقي بأهداف الإنسان بحسب النموذج المعياري تكون تلك التصرفات غير عقلانية.

الحاضنة الاجتماعية للعدالة
لعل من ابرز أسباب فشل تطبيق العدالة في المجتمعات الشرقية حالياً والغربية قديماً يعود إلى حالة العقاب والجزاء التي كانت سائدة آنذاك وحتى اليوم وتطور الأمور في بعض الحالات إلى الانتقال من الجزاء إلى الانتقام، ومن المعلوم انه في المجتمعات الشرقية وحتى الأمس القريب كانت حالة العقاب والجزاء تستثني الأغنياء وأصحاب السلطة والجاه والسطوة وتقتصر في تطبيقها على الفقراء وحدهم، ناهيك عن التدرج الهرمي لشمول مفهوم العدالة بالمنظور القديم حيث كانت تشمل العدالة هرم السلطة والمنزلة الاجتماعية والثروة، باعتبارها تجسيداً لنظام سياسي واجتماعي عادل. والحال هذه فإن أي أثر للحريات والمساواة وحرية التعبير لم ينوجد، بل على العكس صاحب وضعية كهذه انعدام لأي عدالة اجتماعية وتطبيقاتها ولهذا كان لزاماً حدوث تغيرات في الأفكار المتداولة كي نفهم بها بيئة المجتمعات، وخاصة المجتمعات متعددة الأطياف والأعراق، وتكون بذلك العدالة الاجتماعية بمثابة جسر مشترك بين شتى أنواع التقسيمات السياسية وتفعيل مبدأ المساواة بين البشر لهذا فإن استمرار ارتباط العدالة بالخوف من الجزاء والاستمرار في الهرمية المجحفة بحق أطياف أي دولة متنوعة القوميات، تكون هي المسؤولة عن غياب العدالة عن أي مجتمع، خاصة المجتمعات ذات التقسيم غير المتساوي، وتتحقق العدالة في مثل هكذا حالات حين تكون المؤهلات والالتزامات بمثابة خريطة لبنية مجتمعية حديثة وأنموذجاً للآلية السلمية في توزيع الامتيازات التي تنفي التمييز على أسس غير وظيفية ومؤهلاتية، وفي عمل كهذا لابد أن تكون ثقافة التعامل الندي منتشرة في الوسط الآدمي، وانتشار قيم التعامل بالمثل والإنصاف بدلاً من استمرار ثقافة حماية الأقوياء للضعفاء مصاحبة بوعود منح حقوق أو هبات إضافية شريطة التزام الطرف الآخر بتقديم فروض الولاء والطاعة، وهي الحالة التي تشبه حالة ضمان سدنة وكهنة المعابد للازدهار والخصب مقابل خضوع الجموع والإخلاص لهم وعبادتهم، لذا فإن الحاضنة الاجتماعية للعدالة هي تلك التي تؤكد على أن العدالة اختراع بشري وجد لضرورة كبح جماح النزاعات بين البشر خشية أن تتبلور عواقب وخيمة تجر المجتمع الى ويلات كارثية إذا ما تركت دون تجسيد العدالة الاجتماعية السليمة في المجتمع.

العدالة في الثورة السورية
لو تتبعنا الخط البياني للثورة السورية، لوجدنا أن عدالة قلة نظيرها قد وجدت في هذه الثورة، على اقل تقدير عبر الأشهر الثمانية الأولى، لكن إصرار بعض الأطراف على حرف مسار الثورة، وتعميم مفهوم إخافة الأقليات من شبح القهر المنتظر حيال نجاح الثورة، أدى إلى تشكيل قوة باسم الثورة لا تخدم أي لحظة من لحظات الثورة، وغيرها من المفاهيم والمصطلحات التي ركبت الثورة وأجحفت بحق الثورة، لكن، مع كل ذلك، بقيت هذه الثورة توزع شهادات العدالة الاجتماعية على الجميع، هنا الكورد والدروز والسنة والمسيحيون كلهم مشاركون بالثورة، لكن باسم سوريا أولاً، وليس باسم خصوصياتهم، مع أن النقطة الأكثر وضوحاً للعدالة الاجتماعية في الثورة، هي أن لا أحد من هؤلاء فقد خصوصيته في الثورة، لكنهم يثورون باسم سوريا أولا.

 

Share Button

عن PDPKS

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد 84 من جريدة التقدمي

صدر العدد (84) من جريدة التقدمي الشهرية الصادرة عن مكتب الثقافة و الاعلام في منظمة ...