سمير عطا الله : الدبّ في القَرْم

Share Button

بعد ظهر السبت شاهدنا مجلس الأمن منعقداً، على رغم العطلة، من أجل أوكرانيا وما سمِّي السلام في شبه جزيرة القَرم. لا بد أن اسم القَرْم يثير في ذاكرتك – كما في ذاكرة فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين، تلك تنزيل (2)الحرب التي خاضتها روسيا ضد نصف العالم منتصف القرن التاسع عشر. يومها، مثل اليوم، كان الشرق الأوسط حاضراً بعناصره الطائفية، ومثل اليوم كانت كل قوة تؤيِّد شركاءها في الديانات، أو تتذرَّع بالدفاع عنهم. روسيا مع الأرثوذكس، فرنسا مع الكاثوليك، والإمبراطورية العثمانية مع المسلمين.

في الخريطة الحديثة دولة لم تكن قد خرجت عبر الأطلسي بعد، هي الولايات المتحدة. وأميركا المنسحبة من أفغانستان والعراق، والمتراجعة في سوريا، قرّر رئيسها هذه المرة، أنه قد يفقد حلفاءه الأوروبيين ومبرِّر تزعُّمه لحلف شمال الأطلسي، لأن الصراع قد انتقل بسرعة إلى الحديقة المُتنازَع عليها بين الروس والغرب.
مثل برلين قبل سقوط الاتحاد السوفياتي، تقع أوكرانيا في الوسط بين عالمين: نصفها روسي الجذور (أو أكثر) ونصفها كاثوليكي – تتَري يريد الخروج من دائرة موسكو. الثعلب الأوروبي يدخل كَرْم الدبّ الروسي، والدبّ لا ينقصه من يُثير غضبه. خُتمت احتفالات سوتشي الضوئية بصورة دبّ قطبي يذكِّر العالم بطبيعة الأشياء وطِباع السِباع.
وقعت نكسة أوكرانيا على فلاديمير فلاديميروفيتش فيما كان في ذروة الاجتياح السياسي: يقبض في نيويورك على مجلس الأمن، ويضمن الصين إلى جانبه في حرب النفوذ غير المُعلنة على أميركا، ويحقق في الشرق حلفاً عسكرياً غير مسبوق مع إيران وسوريا، ويستقبل زعيم مصر المقبل عبدالفتاح السيسي بعد أربعة عقود من طرد أنور السادات الخبراء السوفيات باعتبار أن “99 في الميّة من الأوراق في يد أمريكا”.
أما “أمريكا” اليوم فتحاول بصعوبة العودة إلى إيران، وقد خدَعها نوري المالكي في العراق، وسخَر منها سيرغي لافروف في جنيف، وهي ضائعة في متاهة سوريا، وخائبة في مصر بعد تأييدها العلني للإخوان، وموضع شكوك في الخليج، حليفها التاريخي منذ خروج بريطانيا مما سمِّي “شرق السويس” لتصبح هي أكبر مستورد للنفط من أكبر مُنتج له. ناشرة أساطيلها المرقَّمة مكان العمارات البحرية البريطانية وبوارج نلسون.
لعل هذه الصورة البانورامية المشوّشة كانت أمام باراك أوباما عندما قرّر السبت أن يمضي 90 دقيقة على الهاتف مع صاحب الكرملين، على رغم فارق الوقت. وحتى إذا حسمنا مدة الترجمة من المكالمة تبقى هناك 45 دقيقة من الكلام بين الرئيس الأميركي، الذي كان يبدو إلى الأمس، أنه لن يتوقف عن التراجع، والرئيس الروسي الذي لن يتوقف عن الاندفاع والهجوم وإنزال العسكر في الديار السوفياتية السابقة.
فيما كنت أتابع مجلس الأمن في نيويورك، كنت أعود، لاإرادياً، إلى مناخ الأمم المتحدة في الحرب الباردة. فجأة علَت الأصوات ضد الخصم القديم. ليس فقط في الأمم المتحدة التي أخفقت في حشد عدد كافٍ من المشاهدين بسبب العطلة والبرد، ولكن أيضاً من مجلسي الشيوخ والنواب وجيوش المراسلين والمحلّلين. إذا كان بوتين قد اعتبر السقوط في كييف هزيمة شخصية في موجة الانتصارات، فإن أميركا رأت في ردة فعله ذروة الازدراء الذي مارسه في سلسلة من الفيتوات، بالإضافة إلى إذلال جون كيري في تفسير اتفاق جنيف الأول عن سوريا.
تحوّلت الحلبة سريعاً إلى صراع شخصي بين مزاجين: واحد فرح بأنه يجتاح المواقع الدولية دون أي مقاومة، وآخر يرى أن الهدوء الذي مارسه في الخارج صار عبئاً عليه في الداخل. أما أوروبا، الجارة الجغرافية والتاريخية، فلا يتعدى نفوذها ذلك الاسم الذي أطلقته باريس على أحد شوارعها: سيباستوبول، ذكرى الأمجاد الغابرة والطموحات الإمبراطورية. اليوم يُرسل بوتين إلى سيباستوبول الأصلية، الدبابات والعسكر يتقدّمهم الشبّيحة الذين احتلّوا المباني الحكومية. ألا تعرف أميركا ماذا تعنيه أوكرانيا للكرملين؟ ألم تسمع الخطاب الذي ألقاه في كييف في أيلول الماضي: “إن أوكرانيا جارتنا وصديقتنا وشقيقتنا. نحن شعب واحد ليس فقط تاريخياً وثقافياً وفكرياً، بل نتكلّم لغتين متشابهتين أيضاً”.
لولا خوفه من أن يُتَّهم بالنقل والعجز عن الابتكار، لكرّر ما كان قاله الرئيس حافظ الأسد قبل إرسال جيوشه إلى لبنان: “شعب واحد في بلدين”. وكان يقصد جمهوريتين، إحداهما غير قادرة على تشكيل حكومة أو انتخاب رئيس، وأحياناً، إجراء تشكيلات السفراء.
هل علينا أن نخاف من تطورات، أو تدهورات أوكرانيا؟ أولاً، نطمئن الجالية الأوكرانية الجميلة، وما تبقّى من الجالية الروسية العامرة، أننا على الحياد. وأقصد الحياد الإيجابي طبعاً. أي عدم الانحياز. وفي ما عدا المحلّلين السياسيين، والسيدة محلِّلة طالع الشعوب والأمم، فإن باقي الشعب يُعلن تضامنه مع عموم ضيفاتنا، بلا تمييز أو تفْرِقة. جسم واحد في هويّتين، في رِحاب المعاملتين.
أما الجواب عن السؤال، فأجَل يجب أن نخاف، لأن حكمة صديقنا دريد لحام معلّقة على جميع الجدران: إذا أردت أن تعرف ماذا يجري في إيطاليا، يجب أن تعرف ماذا يجري في البرازيل. نحن تعوَّدنا أن ما يجري في أي مكان يتحوّل عندنا إلى مُخاطرة. لكل دولة (أو مرحلة) رجالها: المرحلة الناصرية، ومرحلة العلاقات المميّزة، والمرحلة السورية – الإيرانية.
كيف يمكن أن تنعكس أحداث أوكرانيا؟ في ألف صورة. وما دامت سوريا ساحة مفتوحة فقد يزداد عنفها ويتعدّد. وسوف يتصرّف فلاديمير فلاديميروفيتش بعقلية وطِباع وثقافة ليونيد بريجنيف الذي أرسل إلى براغ أرتال الدبابات بمجرد أن سمع التشيك يهمسون بكلمة ربيع.
يجب ألا ننسى أبداً أن بوتين كان ضابط الـ “كي. جي. بي” في ألمانيا الشرقية عندما رأى الاتحاد السوفياتي يتساقط مع جدار برلين. إنه يعرف أن طالبي الحرية لا يشبعون. اعطهم “ريقاً حلواً” وسوف يهجمون غداً على الباستيل. فقَد ميخائيل غورباتشيوف أوروبا الشرقية والجمهوريات الآسيوية، ولا يريد هو أن يتساقط الباقي من حول الاتحاد الروسي. لذلك، بدأ مسيرته في الشيشان بمحو عاصمتها من الوجود. كأن تقول حمص أو الرقة. النماذج واحدة تقريباً.
أعتذر عن تكرار ذلك المثل. ولكن كان معروضاً علينا نموذجان، ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية. كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية. دولة العلم والصناعة والإنتاج ودولة “السِدّ ما ترِدّ”. الحكم بالنجاح والفرص، أو الحكم بتعميم الفشل وإلغاء كل مظاهر الإنجاز. بدل أن نطلب خبراء صناعة من كروب ومرسيدس وفولكسفاغن، طلبنا خبراء مخابرات وعبودية من “الشتاسي”. بدل أن نطلب خبرة لي كوان يو في البناء والرخاء والانتقال من قاع الفقر إلى قمَّة الكفاية، طلبنا خبرة نيكولاي تشاوشسكو في إلغاء الناس والأنفس. وكانت الذريعة دائماً استرداد فلسطين، فإذا بنا نخسر معها سيناء والضفة الغربية والقدس والجولان.
الآن نحن مع بوتين والذريعة لم تتغيّر. وفلسطين في اليرموك مثل يوم الحَشْر تتدافع خلف رغيف أو حبة أسبيرين. و”الجبهة الشعبية – القيادة العامة” متمترسة في أعالي الناعمة استعداداً للحظة الحاسمة في تحرير الأقصى. القدَر ساخر، قالت العرب. سمَّت الأشياء التي هي حقائق ولا تصدّق “سخرية الأقدار”. هل تساءلت مرة على ما ومَن تضحك في مسارح الفكاهة؟ على نفسك وقدَرِك. على قادتك وتبعيّتك. على حضيضك بكل طبقاته. إنه شرُّ البليَّة. والمَبلي أنت، خانعاً أو جاهلاً أو وصولياً. وعندما تفيق – إذا حصل – ترى نفسك في ركام تأباه الزلازل، وموت تستفظعه القبور، ومقاتِل جماعية لم يعد يهمها أبداً البحث عن مسمّيات فارغة وذرائع باهتة.
مَن كان أكثر مَن يخاف ستالين؟ أقرب الناس إليه. يقول نيكيتا خروشوف في مذكّراته إن الرفيق نزدوف، رئيس المخابرات، جاءه باكياً. لماذا تبكي أيها الرفيق؟
لأن الرفيق الأول يوسف ستالين أعلن ترقيتي وأعرب عن ثقته المطلقة بي.
وهل هذا يخيفك؟
أنت لا تعرف الرفيق يوسف! وكان نزدوف على حق. حتى الموت.
لم يتغيّر شيء في قلوب الصقيع. لا في الشرق ولا في الغرب. يتغيّر فقط نوع القفّازات، كمِثل جورج دبليو بوش، أو هنري كيسينجر، أو هذا المُصارع الربّاع الذي لا يهمّه أو يعنيه في شيء أن زَلْمته يانوكوفيتش صاحب سيرة مُخجلة حتى في مرابع المافيا.
كيف تبدو الدنيا من موطن الأمم المتحدة ومقرّ “الأسرة الدولية”؟ كما بَدَت دائماً: بليدة وعاجزة وغارقة في اختيار الألفاظ التي لا تثير غضب أحد. إذا كان أونوريه دو بلزاك قد اشتهر بـ”الكوميديا الإنسانية” أو “أوجيني غرانديه” التي ترجمها فؤاد كنعان في نص أجمل من الأصل، فالحقيقة أن عمله الأول، “جلد الحزن” كان أكثر عمقاً. لقد اقتبس من ألف ليلة وليلة حكاية الرجل الذي ابتاع جلد حمار يمنحه القدرة للحصول على ما يريد، لكن الجلد ينكمش مع تحقيق كل أمنية إلى أن يأتي يوم يصبح فيه من دون جلد ومن دون قوة.
الجلد السحري الذي عثر عليه بوتين بدأ ينكمش. ليس أمام الغرب، بل أمام الروس. إنه يعيد إلى ذاكرتهم الخيارات العسكرية السوفياتية التي أدَّت إلى انهيار الاتحاد، من براغ إلى كابول. مثلها مثل الخيارات الأميركية. الرجال القادمون من مدرسة الماضي لا يعرفون كيف يخلعون الجزمة الجلدية التي تنكمش في عَظْم أرجلهم. كنّا نأمل من هذا الرجل أن يساعد سوريا على حل إنساني سلمي لا يؤدّي إلى تشتيت أهلها في ديار الآخرين. اختار أن يزوِّد النظام الميغ والفيتو ومؤتمرات سيرغي لافروف التي لا تقول شيئاً. اعتقد أنه يستعيد نفوذ روسيا فدمَّر سُمعتها وترَك في نفوس السوريين ألماً لا يُنسى.

Share Button

عن PDPKS

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد 84 من جريدة التقدمي

صدر العدد (84) من جريدة التقدمي الشهرية الصادرة عن مكتب الثقافة و الاعلام في منظمة ...