إتصل بي قبل حوالي العام من وفاته وبادرني بنبرته الهادئة الرزينة مع مسحة من الشوق والحزن الملفوف برداء المحبة والود كمن يقرأ المستقبل قائلا وبدون أية مقدمات: سعيد أخاف أموت قبل ما أشوفك.
وقعت عبارته تلك علي كالصاعقة لأنني كنت أتوقع أن أسمع أي شيء منه إلا هذه.فجاوبته على الفور وبدون أي تفكير بتبعات قراري:أستاذ حميد أنا قادم خلال شهر إن شاء الله لزيارتك والاطمئنان عليك.وكانت قد مضت مدة عشرين عاماً لي في الاغتراب دون أن أتمكن من زيارة مدينتي القامشلي وقضاء ولو ليلة واحدة في بيتي الذي كنت أحن إليه ولشجرة الليمون التي زرعتها بيدي كثيراً.
لم يمض شهر على تلك المخابرة والنداء النابع من أعماق القلب حتى كنت في ضيافته في بيته الجديد علي بعد كل هذا الغياب الطويل. إستأنست مرة أخرى وكانت الأخيرة لي معه بذلك الحديث الهادئ الرصين، وتبادلنا معاً بعض الذكريات الجميلة لأعوام مضت.واستشرفنا معاً آفاق مستقبل الوطن النازف والذي كان من الصعب استشرافه.لم أنس قط ما كان ينطق به من حكمة وبعد نظر ولم أشك لحظة بوعيه السياسي المتقدم وعمق نظرته الصائبة. لكن يبدو أن الظروف كانت أقوى منا جميعاً حيث خابت الآمال التي كنا نعيش عليها طوال سنوات من العمل معاً في أطر وطنية جامعة. وعدت بعد يومين إلى هولندا وأنا مازلت أحمل نداءه ذاك في قلبي كذخيرة معنوية تساعدني على تجاوز ما تبقى لنا من أيام أو سنوات نقضيها ضيوفاً على هذه الحياة إلى أن يحين الأجل الموعود.
سبقنا الأستاذ والقائد الكردي البارز عبد الحميد حاج درويش في الرحيل وصورة الأخ الأكبر والمعلم والحكيم الصادق المتواضع المحب بقيت مثبتة في ذاكرتي لا تفارقني لحظة .وأنا ما زلت وسأبقى أنهل منها كلما احتجت في حياتي الشخصية والسياسية لأي من تلك الصفات التي قلما توجد وتجتمع في شخصية سياسية في عصرنا ومنطقتنا التي تفتقر وهي أحوج ماتكون لأمثاله.
أشعر بعد كل هذه السنين التي عملنا بها معاً عن قرب وعن بعد بأنني أدين له بالكثير مما تعلمته في هذه الحياة ويؤلمني بأنني لم أتمكن من رد بعض فضائله علينا.
أقول له وداعاً لكنك لن تغادر ذاكرتي أبداً لأنني أدرك عمق المشاعر التي جعلت منك الإنسان الذي نطمح إليه ونحلم به على الدوام.
نم قرير العين كاك حميد
ونسأل الله أن يتغمدك بواسع رحمته وحنانه ومحبته اللامحدودة.
بمناسبة مرور عام على رحيلك ستبقى صورتك وذكراك لنا الطريق الذي يرشدنا إلى شرف السعي بأمانة ونزاهة وحكمة للوصول إلى المبتغى.