سامان سوراني: مستقبل الفلسفة بين المراجعة التاريخية والسياجات الدغمائية

Share Button

samanعندما سئل الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون (1859 – 1941) ذات يوم عن أحسن كتاب سيصدر بعد عشر سنوات ، كان جوابه كما ينتظر من فيلسوف، “لو كنت عرفته لكتبته أنا”. هذا ما يدفعني أن أقول، لو كنت أعرف مستقبل الفلسفة بالشرق الأوسط لسعيت اليوم في تهيئة الجو لها، لكن هيهات، فمستقبل الفلسفة في هذه البقعة من السكينة المليئة بالحروب والصراعات العقائدية والطائفية والنفسية الدنيئة مرتبط بمستقبل الثقافة والتطورات السياسية  والإقتصادية والإجتماعية.

بما أن الفلسفة هي الفكر الذي يجلب نفسه الى الوعي و يجعل نفسه موضوعا لنفسه ، بل هي عرض لتطور الفكر كما هو في ذاته لذاته ، دون أية إضافة ، وأن تاريخ الفلسفة مع الجهود التي بذلت آلاف السنين وما أنتج فيها ، هي محصلة كل ما حدث في الماضي ونتيجة ما سبقها إلا أننا نراها كبحث عقلي عن حقائق الموجودات لمعرفة البداية والنهاية والحاجة إليها اليوم أشد من أي وقت آخر. هذه الحاجة مرتبطة طردياً بالأسئلة التي تواجه الفكر والعقل.

يري الفيلسوف الألماني جورج ويلهلم فريدريش هيجل (1770-1831)، أهم مؤسسي حركة الفلسفة المثالية الألمانية في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، أن أساس الحاجة إلى الفلسفة هو حاجة الحداثة إلى الوعي بذاتها وبمظاهر حدتها وبأسسها المعيارية.

فالفلسفة مدعوة إلى أن تتعقل زمنها Penser son temps وأن تترجم عصرها وزمنها إلى أفكار.

أما المعرفة الفلسفية هي معرفة شمولية تسعى باستمرار لتصور القضايا بكل مظاهرها و أبعادها. في الشرق الأوسط نري بأن التخلف كمشكلة متجذرة يغطي جميع مناحي الحياة والفكر لا يمكن حله من دون السعي الي إيجاد حل قطعي للتزيف الايديولوجي الساعي الي قصر مشاكل التخلف بإستمرار والتردي في بعد واحد.

التفكير الفلسفي لا يعرف مناطق محرمة فهو منفتح علي كل المنافذ والأسئلة و يرفض الإخفاء والتستر و جمود الإجابات أو قمع الأسئلة أو المكابرة المرضية التي تعانيها الثقافة في الشرق الأوسط، تلك الثقافة التي منعت المنطقة من التطور في العلوم والبحوث و جعلتها منطقة فكر ديني ولغوي دفاعي تكراري واجتراري قائم على التلخيصات والتهميشات.

ولم يشذ تلك الثقافة الشمولية عن هذا الإطار طيلة قرون من الزمن بحيث جعلت غياب الحكمة من أبرز سماتها و أدت في النهاية الي سيادة نمط واحد محدد من أنماط التفكير أو شيوع التفكير اللاعقلاني وغياب المنطق وحضور الخرافة  الم?دية الي منع تغلغل التفكير العلمي السليم في أذهان الناس وحياتهم العامة على المستويات والطبقات كافة والمعمِّقة لمشاعر الإستنقاص ونزعات الفرار من الذات.

إن نشر الفكر الحديث وإشاعة الحداثة الثقافية و وعي حداثي مبني علي أسس فلسفية للإنتقال من فكر التكرار والإجترار والنقل والتذكر والسرد الي فكر التحليل والتعليل والنقد و هجر الدغمائيات والحقائق القبلية الجاهزة والمسلمات الفكرية والثوابت الظلامية‏ ‏يمهد الطريق لتبن?ي التفكير النقدي المعتمد علي المناهج والمفاهيم الحديثة للوصول الي باب توسيع دائرة المفكر فيه لا دائرة المهمش والمنسي والمقموع فقط ، بعد مسح السياجات الدغمائية التي تحرسها قوي التقليد والمحافظة الواعية بذاتها.

إن توجيه التفكير إلى الماضي و العيش في النهج الأبوي التقليدي القديم لا تفيد في حل قضايا العصر المستجدة. علينا بالدعوة إلى الاهتمام بالحاضر والآني والمتحول أو بما أسماه الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926 ـ 1984) أنطولوجيا الحاضر أو الراهن  وهو الذي تتبع في دراسة له حول فلسفة الأنوار (سنة 1983) جذور فكرة ارتباط الفلسفة بالآن، لأنه كان م?من بأن العالم الجديد يبني بالتفكيك و يستمد مشروعيته من ذاته.

وأن تنازل الإنسان عن أستخدام عقله في بناء المجتمع والدولة و الم?سسات يتحتم عليه العيش في ظل وصاية من يقوم بالأشياء بدله فلا عجب من أن يتحول هذا الإنسان الي شخص تابع، عديم الإرادة والحرية . فالعقل هو مرادف للحرية والإرادة والذي يستخدم عقله صاحب إرادة حرة، أما مهامه فيجب أن يتعدي المهام الكلاسيكية لتكون عالمية و إنسانية و خاصة في المجالات المرتبطة والمختصة بالقيم  والغايات الأخلاقية والمثل والأحلام والأهداف المستقبلية التي يمكن الإجماع عليها ليستطيع المحافظة علي عريته والدفاع عنها وإلا سيكون المآل السقوط في الهاوية كسقوط فلسفات سيئة الحظ التي تبنتها سلطات ارهابية في ظل النظم الأيديولوجية المتحجرة والنظم الطاغية المتخلفة.

وختاما نقول مع المفكر المصري الدکتور ف?اد زكريا (1927-2010)، الذي كان متحصناً بالعقل النقدي‏ و عاش ومات مناضلاً من أجل سلطة العقل:

«العقول لا تتغير من فراغ، فلا معنى لدعوة تغيير طرق التفكير عند الناس أولاً، ثم بعد ذلك تغيير الظروف والأوضاع، لأن الدعوة بهذا الشكل دعوة معكوسة، فالعقول لا يعاد تشكيلها بقرار فوقي أو خطة طويلة المدى، العقول لا تبدأ التغير إلا بعد أن تتغير الأوضاع من حولها».

 

 

Share Button

عن PDPKS

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد الجديد 639 من الديمقراطي

صدور العدد الجديد (639) من جريدة الديمقراطي باللغتين العربية و الكردية. الافتتاحية : من المعلوم ...