بعد أن أصبحت الديمقراطية معيار لمشروعية الحكومات و بعد أن ولد الحق الإنتخابي حتمية وجود صيغ و إجراءات مكنت المحکومين من ممارسة السلطة السياسية بعملية إختيار حكامهم أخذ الحق من الحکام إدعائهم كما في الماضي بأنهم يستمدون نفوذهم من الإله.
اليوم أصبح حق الإنتخاب حدث عمومي غير مقيد أو مقتصر علي أقلية معينة من المواطنين ولا تحدد حسب شروط ترتبط بالثروة والنصاب المالي والكفاءة العلمية. هذا المنعرج السياسي والفكري حدث مع الثورة الفرنسية عام 1789 من خلال إرسائه بفرنسا سنة 1793 لانتخاب مجلس La Convention. أما الظروف التي واكبت انتخاب هذا المجلس لم تسهل ثباته والأخذ به بصفة نهائية. وهذا ما جعلت فرنسا تتماطل الي عام 1848 حتي تعلم بالانتخابات العامة. أما الدول الأوروبية فقد جاء إرساء الانتخابات العامة بشيء من التأخير. فإيطاليا عرفته عام 1912 وإنكلترا وهولندا عام 1918 والمانيا عام 1919.
اليوم بعد أن دخلت السياسة في إطار التدبير العقلاني والديمقراطي للشأن العام، تأخذ الانتخابات العامة جل دول العالم وقد ساند القانون الدولي هذا التطور نحو تعميم هذا الاقتراع. فالفقرة الثانية من الفصل 21 من الاعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الامم المتحدة في 10 ديسمبر 1948 والفصل 25 من الميثاق الدولي للحقوق المدنية السياسية الصادر في 16 ديسمبر 1966 تؤكدان علي تعميم الانتخابات العامة، التي هي إمتزاج مع سيادة الشعب و تعبير عن المساواة بين الجميع و إنتقال من سيادة فرد الي سيادة الشعب والإنتقال من تنظيم اجتماعي تفاضلي الي تنظيم اجتماعي يقوم علي المساواة بين أفراد أحرار ومستقلين.
نحن نعرف بأن الشمولية خيمت علي العراق لمدة أكثر من نصف قرن من الزمان و تدخلت في كل متطلبات الحياة العامة و أقتحمت نفسها في أدق تفاصيل الحياة الخاصة بحيث جعلت الناس رهائن لدي الدولة و مجرد رعايا و أتباع للحكام لا يقدرون التصرف بمفردهم في قضاء حوائجهم و تدبير معاشهم خارج فلك السلطة الحاكمة و دون العودة الي شبكاتها المخابراتية والأمنية الظالمة و ومنظومة الاقصاء و أجهزتها السيادية ومصالحها العمومية. فالذهنية الديمقراطية وثقافة حقوق الانسان والتعددية والمرور باللحظة التنويرية و التشبع بالروح الحداثية كانت غائبة الي درجة. هذه الظاهرة أثرت بشکل سلبي علي التطور السياسي والمجتمعي في اقليم كوردستان. وهكذا تأخرت موضوع تحديث و عصرنة الأحزاب السياسية لتتحول الي مؤسسات سياسية ، تمارس الفعالية السياسية من خلال مؤسساتها الاجتماعية. و عصرنة الهيكل التنظيمي للأحزاب وتحديثها تؤدي الي رقاء مستوي المؤسسة السياسية الفاعلة القادرة علي التواؤم مع النظام المؤسسي وإلا فأنها كما معلوم تبقي خارج هذا النظام.
نحن نعلم بأن الديمقراطية لا تعني بالضرورة الإكتفاء بتنظيم انتخابات والإنتخابات بدورها لاتفضي بالضرورة الي صعود الديمقراطية. فالتحضر المدني والتشبع بالقيم الديمقراطية ، التي تتضمن التسامح والسلم وحق الاختلاف و إحترام الرأي المغاير وحرية التعبير و تدوال الحكم ، هي التي تعكس نضوج الوعي السياسي والذهنية الديمقراطية الناضجة.
في اقليم كوردستان تجري في 21-9-2013 انتخابات برلمان كوردستان ، حيث هناك تنافس بين 31 كيان سياسي لشغل 111 مقعداً نيابياً ، 11 منها مخصصة كما في السابق لكوتا الاقليات الكلدانية والآشورية والتركمانية والأرمنية.
بما أن هناك خطوات إيجابية نحو الأمام ، إلا أن المجتمع الكوردستاني مازال في خطواته الأولي نحو النماء السياسي والتشبع بالتعددية والتنوع والإختلاف و غرس شجرة الديمقراطية و حقوق الإنسان وقيم المواطنة و يلزمه محطات و وقت حتي يتعود بالممارسة الديمقراطية والتدوال السلمي علي المناصب ويتعود المترشح علي التفكير خارج إطار إيديولوجية الحزب من غير التكبيل بسلسلة من الالتزامات تفقده الاستقلالية والحق في الإعتراض أو رفض أوامر القيادة.
التجربة الديمقراطية الفتية في كوردستان تواجه و ظروف الحرب في سوريا والوضع الأمني الغير مستقر في العراق العديد من المخاطر والتحديات مثل الإرتداد و الإلتفاف ، لذلك يجب تقوية التيار الديمقراطي والمحافظة على استقلالية المؤسسات المحدثة وتطويرها وتحسين نسبة مشاركة الناخبين وتجاوز بعض النقائص والسلبيات التي تمت ملاحظتها والتقليل من التجاوزات والمخالفات التي وقعت في المستقبل والتحلي بالروح المدنية والارتقاء بالمستوى الحضاري للفاعلين والمشاركين وايلاء مسألة التداول السلمي للسلطة والتمييز بين السلطات والتوازن بينها ومراقبة كل واحدة للأخرى الأهمية الكبيرة. علي أحزاب السلطة و تيارات المعارضة التوجه أكثر فأكثر نحو بناء الذات السياسية و تنشيط الفضاء المواطني والمساهمة البناءة في دمقرطة إقليم كوردستان. فالرکض وراء المصالح الحزبية الضيقة والتكالب علي المناصب لا يدعم إجتياز هذه المرحلة بسلام و تقدم نحو المستقبل بخطوات واثقة.
إن الديمقراطية هي مشروع لايكتمل وهدف يبقي دوما قيد الإنجاز والبناء ، توسيعاً أو تعديلاً أو تطويراً وإن نجاح التجربة السياسية مقرونة بمقارعة الباطل والتشهير بالفساد و محاربته و الإخلاص في العمل و الإنتصار الي الحق و تجاوز منطق المطابقات المستحيلة والتماهيات العقيمة بين الهويات والذوات والعمل بمنطق الخلق والتوليد. فالوعود الإنتخابية يجب أن تترجم الي أفعال ملموسة بعد معالجة الأزمات الهيكلية التي تمنع الناس من تدبير حياتهم علتي النحو المطلوب.
إن التوجه نحو المستقبل ووضع مصلحة الوطن فوق كل اعتبار يبدأ بالقطع مع الماضي الشمولي والقيام بنقد جذري للذات ومراجعة عميقة للرؤي والمناهج والتصورات التي تبني رأي إيجابي يمثل دعامة للحكم الرشيد.
علينا بمحو النزعة النخبوية الفوقية التي تخفق العمل الديمقراطي و تؤدي الي قسمة المجتمع الي فئتين: قلة تفكر و تقرر و كثرة تطيع و تنفذ. فإذا أردنا ببناء إقليم مدني و عصري فما علينا إلا بإرساء تقاليد تشاورية تفاوضية تفعل التعددية وتصنع التوافق والتفاهم والتعايش بعد تجاوز الخلافات والتنازل عن الرغبات الأنانية والمصالح الشخصية لإعطاء الوحدة الأولوية والإعتصام بقيم الديمقراطية الجذرية والمساواة الجندرية.
وبالرغم من أن عالم الإنسان مفتوح دوماً علي الإحتمالات والمفاجئات و أنه لا وجود لمفاهيم محضة أو حقائق متعالية نخضع لقوانينها المسبقة أو أوامرها الجازمة ، إلا أنه لو أنفقنا ما يصرف في الحملات الانتخابية بطريقة صحيحة لسددنا كثيراً من الثغور وقللنا الإحتياجات المجتمعية اللازمة.
وختاما يقال: “أخطر الأصوات في الانتخابات أصوات الممتنعين عن التصويت”. أملي أن ينتخب الفرد الكوردستاني مرشحه أو الجهة التي تجاهد في سبيل دستور ينظم العلاقات بين المؤسسات التنفيذية الكبيرة في الإقليم بحيث تراقب بعضها البعض باستقلالية، ويكون لكل منها رقيباً يحاسبها على أساس منطوق الدستور و تؤمن الإستقرار السياسي والتقدم والشفافية وتضمن الحقوق المدنية و الحق في تقرير المصير وتعمل بإصلاحات جذرية من أجل تعزيز الرفاهية العامة في المجتمع و صون التعايش السلمي.