رستم محمود : أكراد سورية خارج نمطَيْ كردستان وتركيا

Share Button

في المشهد السوري الراهن، ثمة تياران سياسيان كرديان يبدوان وكأنهما يختصران المشهد الممثل للحركة السياسية للأكراد السوريين:رستم محمود
حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي PYD، القريب من حزب العمال الكردستاني PKK، الذي باتت تشكيلاته العسكرية والأمنية واسعة الانتشار في الجغرافيا الكردية في سورية، ويخوض مواجهات عنيفة منذ شهور مع الجماعات الإرهابية المسلحة التي ترغب بالسيطرة على هذه المناطق الكردية. يحمل هذا الحزب مشروعاً مجتمعياً يقضي بسيطرته الرمزية واستفراده الفعلي بالمجتمع الكردي السوري، كما أن برنامجه السياسي –المعبَّر عنه بمشروع الإدارة الذاتية- قائم على نوع من الحُكم المحلي في هذه المناطق يتماهى منهجياً مع أفكار زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان وكتاباته.

في كلا التوجهين يبدو الحزب غريباً عن البيئة المجتمعية السورية العميقة الآخذة بالتجذر، والتي يشكل الأكراد السوريون جزءاً تكوينياً منها، فالمجتمع السوري الذي خرج بثورة عارمة لرفض الهيمنة السياسية والرمزية لطرف أيديولوجي أو سياسي بعينه، غير قابل للانضواء تحت جناح هيمنة محلية مماثلة تشرعن لنفسها الهيمنة بخطاب مماثل للهيمنة التقليدية التي كان النظام يمارسها بشكل كلي على المجتمع السوري: تأمين الحماية وسردية الشهداء وأولية العداء للخارج… إلخ، كما أن مشروعه السياسي قائم على تجريب معايير وخيارات وتطبيقات فوقية لم تنبع من إرادة الذين تريد أن تخضعهم لهذا البرمجة السياسية البيروقراطية ورغبتهم وخيارهم، بل من لغة وأدوات ومعايير لا يعرفونها، وهي تغرق في التنظير والضبابية وتسعى للإيحاء بتحقيق أمان كبيرة، من دون أن تملك أدوات أو شروط لتحقيق ذلك.

جوهر هذا الاغتراب نابع من طبيعة العلاقة بين قواعد هذا الحزب ونخبه من طرف، وباقي الأكراد والسوريين من طرف آخر، فقواعد الحزب الجماهيرية منحدرة من البيئة الكردية الأكثر حرماناً وتعرضاً للتعنيف، وبالتي الأكثر عزلة وشعوراً بالتناقض مع الآخر، والأقل اندماجا مع الكل السوري، اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً ورمزياً. بيئة العوز الكردي تلك لها عالمها ومتطلباتها وكيمياؤها الخاصة، وهي تختلف من حيث الجوهر مع الكثير من بداهات المجتمع السوري، ومع جزء كبير من المجتمع الكردي نفسه.
كما أن نخبة هذا الحزب بالمقابل، هي الأكثر انعزالاً عن نخبة «العمل العام» السورية، خصوصاً في العقد ونصف العقد الأخيرين من تاريخ سورية المعاصر، واللذين شهدا أشكالا من اندماج النخبة الكردية السورية مع العموم الوطني. نخبة هذا الحزب تبدو نخبة كردية-تركية، منشغلة ذهنياً وروحياً بأسئلة وأجواء وعوالم نضالات أكراد تركيا لنيل حقوقهم، وهي متماهية مع الخطاب الكلي لحزب العمال الكردستاني، بحيث تبدو المسألة السورية معهم شيئاً عابراً وغير مركزي.
لا يعرفون شيئاً عميقاً عن سورية السياسية والاقتصادية والثقافية والفنية والاجتماعية، وثمة كثير من سوء الفهم بينهم وبين السوريين، وكذلك بينهم وبين طيف واسع من أكراد الطبقة الوسطى وما فوق، هؤلاء الأكراد هم الأكثر شبهاً بعموم السوريين، الحاصلين على مستويات جيدة من المعرفة والخبرة المجتمعية الحياتية.
على طرف آخر، لا يبدو «الخصم» السياسي الكردي لهذا الحزب، أكثر فاعلية في هذا المجال، فالحزب الديموقراطي الكردي في سورية-البارتي، والذي يريد لمّ العديد من أجنحته السياسية، عبر تشكيل تنظيم واحد يسمى «الاتحاد السياسي». هذا الحزب المأخوذ بالزعامة السياسية لآل البارزاني، وبالتبعية السياسية والأيدلوجية، وحتى التنظيمية للحزب الديموقراطي الكردستاني، المتمركز حول تنميط رجعي من العلاقات المجتمعية المحافظة وبطريركية تراتبية سياسية، قائم على تقديس روح العائلات والعشائر والشخصيات المهيمنة، تلك التي يريد أن يعيد ترويجها وإحياءها في المجتمع الكردي السوري.
يبدو هذا التيار السياسي بالمقابل أكثر فظاعة في سوء وعي حالة سورية المعاصرة وحال أكرادها. ومن حيث الجوهر، يبدو كالإسلاميين السوريين، غارقاً في تخيلات ماضوية عن المجتمع. لا يدرك هذا الحزب ولا تدرك نخبته السياسية، أن الريف الكردي السوري الذي كان يشكل قرابة 90 في المئة من المجتمع الكردي السوري لحظة تشكل الحزب في أواسط الخمسينات من القرن المنصرم، أن ذلك السهب الريفي الكردي قد انتهى، وأن الأكراد السوريين باتوا بأغلبيتهم المطلقة من سكان المدن، وجزء هام منهم عاش لسنوات طويلة في مدينتي دمشق وحلب، وأن تنميط علاقتهم البينية المجتمعية والسياسية الكلية، وفق التبعية والولاء الدموي، لم تعد تغري حتى الطبقة الكردية الأكثر بساطة، فكيف بمئات الآلاف من الشباب الأكراد ذوي التحصيل المعرفي العالي، المندمجين بالكل «العالمي» والمتماهين مع خيارات الثورة السورية مجتمعياً، وبالذات في ما يخص الاعتداد بالذات والميل للفردية.

غير التناقض المجتمعي المحلي، فإن توجه هذا الحزب وباقي الطيف السياسي الذي يدور في فلكه، لا يُظهر أيَّ تماه مع الكل السوري أيضاً، كأنه مشروع رديف لمنظومة مجتمعية وسياسية خارج سورية. منظومة تجاوزها المجتمع السوري بالمطلق، كما تجاوزتها الطبقة الأكثر حيوية وديناميكية من الأكراد السوريين غير المأخوذين بغير أنماط حياتهم وما يوفر لهم السُّبُل الحميدة للعيش. الأساس هنا هو أن هذا الحزب لن يستطيع أن يشكل مساحة مع باقي النخبة السورية، فلا لغة سياسية ولا شفرات ولا عوالم مشتركة بينه وبين الجيل الأحدث من السوريين، وكذلك تقوم أدواته للسيطرة على جزء من المجتمع الكردي على بعض المال السياسي والكثير من الاستناد إلى المنجز السياسي لإقليم كردستان العراق. في المحصلة، هو تيار سياسي غير قادر على تقديم شيء حقيقي للأكراد السوريين ولا للحالة الكردية السورية في عموم البلاد.

طوال العقد ونصف العقد الأخير من تاريخ سورية الحديث، شهد تيار سياسي كردي سوري مستويات عالية من الاندماج مع عوالم السياسة والآلام والآمال السورية، كان منبع هذا التفاعل الطبقة الوسطى الكردية السورية، التي كانت بدورها مندمجة ومتماهية مع مثيلتها السورية، وهي غير معزولة، مثل الطبقتين الأكثر فقراً والأكثر رجعية من الأكراد السوريين. كان الحزب الديموقراطي التقدمي الكردي بزعامة عبد الحميد درويش وحزب يكتي الكردي السوري بقيادة فؤاد عليكو، الأكثرَ تمثيلاً لهذا النزعة الحديثة من الخيارات السياسية للأكراد السوريين.
هذا التيار يبدو الأكثر ترهلاً راهناً، لكنه يبقى الأكثر قدرة على خلق مساحة مشتركة مع الطبقة الوسطى الكردية الحيوية، ومع الكل الوطني السوري، حيث تكمن المصلحة الموضوعية للأكراد السوريين.

نقلا عن الحياة

Share Button

عن PDPKS

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد الجديد 639 من الديمقراطي

صدور العدد الجديد (639) من جريدة الديمقراطي باللغتين العربية و الكردية. الافتتاحية : من المعلوم ...