إبّان مرحلة مفصلية من تاريخ المشرق في أواخر ثلاثينات القرن الماضي، اعتبر المفوض السامي الفرنسي في سوريا ولبنان آنذاك غبريال بيو أن «المسألة السورية غير قابلة للحل وفق منطق ديكارت العقلاني». والآن يعود الاستعصاء السوري ويبرز بعد أقل من قرن بقليل على إبرام اتفاقية «سايكس – بيكو» التي رسمت حدود كيانات جديدة منبثقة من وراثة السلطنة العثمانية.
تعود المسألة الشرقية من جديد عبر النزاع السوري المتعدد الأوجه. إزاء تداعيات هذا النزاع، إضافة إلى انهيار الوضع الفلسطيني وهشاشة أوضاع العراق والأردن ولبنان، تعود نغمة “سايكس – بيكو” الجديدة، أي تقسيم ما هو مُقسّم حسب وجهة نظر الوحدويين والقوميين.
وهذه المرة لا تجد فرنسا وبريطانيا نفسيهما في موقع اللاعبين من الدرجة الاولى كما حال اللاعبين الروسي والأميركي، بل إنهما يشهدان اندثار الرهانات على التركيبة القديمة ليس فقط بسبب خنجر أو مقص المستعمر ولعبة المصالح فحسب، بل بسبب فشل بناء الدول الوطنية القومية بعد الاستقلال وغياب إطارات الاندماج الإقليمي الملائمة.
في تقييم لتجربته لمدة سنتين في سوريا ولبنان (1939 – 1940) يقول غابريال بيو: “كل شيء كان يحمل فرنسا على البقاء في المشرق. على هذا الشاطئ من المتوسط تمر طريق الهند وقريباً منه نجد منابع البترول”، وما كان يسري على شرق المتوسط منذ سبعة عقود من الزمن لا يزال يسري اليوم لناحية الأهمية الجيو استراتيجية ومصادر الطاقة وممراتها، حيث تسعى روسيا إلى الحلول مكان فرنسا وبريطانيا في “اللعبة الكبرى الجديدة”، وتعمل لتقبل الولايات المتحدة الأميركية لعب دور الشريك المرغم من أجل تفادي العودة إلى منطق الحرب الباردة الجديدة.
حيال التموضع الجديد للقوى الكبرى والدور الكبير لقوى إقليمية منخرطة في النزاع مثل إيران وتركيا والمملكة العربية السعودية، من دون نسيان اللاعب الإسرائيلي النشط في خلفية المشهد، يبدو الدور الفرنسي مهمشاً أو ثانوياً أو مسلماً بأفول النفوذ الاوروبي في هذه الناحية من المتوسط.
بيد أن تسلسل الأحداث منذ آذار 2011 يؤكد أن فرنسا في عهد ساركوزي كما في عهد هولاند بقيت لاعباً يرفض الخروج من دائرة التأثير في مصير الشرق، ليس بسبب المسؤولية التاريخية والمصالح المباشرة بل لأن أهدافها الاستراتيجية والدفاعية في العالم تتركز – حسب “الكتاب الابيض” للدفاع الفرنسي الصادر أواخر نيسان 2013 في المناطق التي تصفها بالحيوية والمهمة لها، وهي المحيط الأوروبي والشرق الاوسط والخليج والبحر الأبيض المتوسط وأفريقيا (خصوصا المغرب العربي ومنطقة الساحل).
على رغم الأزمة الاقتصادية الخانقة تشدد العقيدة الدفاعية الجديدة على ضرورة احتفاظ فرنسا باستقلالية القرار السياسي، وذلك في استعادة لمفهوم شارل ديغول خلال الخمسينات والستينات الذي رفض الانخراط التام في المخططات الأميركية على رغم الحرب الباردة وطالب بصوت مستقل لفرنسا.
لكنّ الاستقلالية الفرنسية تتعرض لامتحان كبير في عالم الفوضى الاستراتيجية، وتفتقد لقدرة الدفع في عالم متعدد الأقطاب من دون قطب أوروبي نافذ ومؤثر. وفي المسألة السورية بالذات تواكب باريس مساعي الحل السياسي بعد تقييم دبلوماسيتها الخاطئ في ما يخص متانة النظام السوري وشبكة تحالفاته القوية.
ويمتد الرهان المتعثر إلى خيبة الامل من عدم بروز المعارضة السورية كبديل قادر له صدقيته ومن إشكالية بروز العامل الجهادي وأثره على مجرى الأحداث. تبعاً لذلك ازدادت قناعة باريس منذ ربيع 2012 باستحالة تغيير وجهة النظر الروسية وكانت دبلوماسيتها تعول على تغيير لم يأتِ مع إدارة اوباما الثانية.
ومن هنا تلعب باريس دور الشريك المشاغب في مسار جنيف وتحاول وضع خطوطها الحمر لمنع تحويل هدفه المركزي، وهو تنظيم مرحلة ما بعد الأسد كما شدد هولاند في تصريحاته الأخيرة. وهذا الفهم الفرنسي لهدف مسار جنيف والمتناغم مع الموقف البريطاني، لا يجد كل الصدى عند “الأخ الاميركي” الأكبر كما يحلو للندن تسميته.
إلا أن الإعلان عن رفع الحظر الأوروبي عن تسليح المعارضة السورية يُعدّ رسالة لموسكو ونظام دمشق قبل البدء بالمسار التفاوضي. ومع أنّ باريس تتعاون من أجل انعقاد مؤتمر “جنيف – 2″ في أوائل تموز المقبل على الارجح، إلّا أن مصادرها الدبلوماسية لا تبدي تفاؤلاً بالوصول لنتائج سريعة.
ومن هنا تراقب باريس عن كثب تطور الأمور على الارض في سوريا والعراق ولبنان ويزداد قلقها من التفتيت والاهتراء داخل سوريا، وكأّن سيناريو فرنسا في تقسيم سوريا إلى دويلات خلال عهد الانتداب يرتسم اليوم من جديد مع مناطق نفوذ مغلقة وكانتونات طائفية ومنطقة كردية.
إلا أنّ أحد كبار المهتمين الفرنسيّين بالملف السوري لا يعتقد بإمكان تشريع قانوني لأي تقسيم من دون أن يستبعد نمط حكم فيديرالي وخصوصية كردية مع تشديد على المواطنة وحماية الأقليات.
على رغم أهمية الدور الروسي المستجد، لا يبدو أن باريس ستُسلم بسهولة بالانسحاب من اللعبة السورية حيث يبقى لبنان من أولوياتها، ولأنها بعد خسارة حليفين سابقين (صدام حسين وياسر عرفات) سيصعب عليها تصور إعادة رسم خريطة الشرق من دون إسهامها.
الجمهورية