تزامنا مع انتفاضات وثورات الربيع العربي ثمة ثورة كردية صامتة بدأت تختمر وتخرج من فوهة التاريخ والجغرافيا إلى سدة المشهد السياسي على شكل حلم قومي ظل يدغدغ الوجدان الكردي في الأجزاء الكردية الأربعة، أي العراق وإيران وتركيا وسوريا، على شكل تدفق قومي في الجغرافيا السياسية التي يشغلها الأكراد في هذه الدول.
وهو حلم قديم راود الأكراد منذ انهيار الدولة العثمانية بعد أن انهار هذا الحلم مطلع القرن الماضي على مذبح النفط والمصالح والاتفاقيات الدولية (سايكس بيكو-لوزان ..) ليعيش بعدها الأكراد في الدول المذكورة يسعون إلى هوية قومية حرموا منها تارة جراء الإيديولوجية القومية السائدة، وأخرى باسم الوحدة الإسلامية.
لكن الثابت أن تحقيق الحلم الكردي بإقامة دولة كردية بحاجة إلى مقومات عديدة، واعتبارات إقليمية ودولية، وهي مقومات وشروط أساسية للاعتراف بها، ولتعيش بسلام مع الجوار الجغرافي، فضلا عن امتلاك عوامل الديمومة، فالثابت أن الدول لا تبنى بالعواطف فقط.
في أهداف المؤتمر القومي
في الواقع، لم تكن دعوة رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني إلى عقد مؤتمر قومي كردستاني خلال سبتمبر/ أيلول 2013 بمشاركة القوى والأحزاب الكردية في الأجزاء الأربعة وليدة اليوم، حيث سبق أن دعا كل من الرئيس العراقي جلال الطالباني الذي هو في الوقت نفسه الأمين العام للاتحاد الوطني الكردستاني، وكذلك زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان إلى مثل هذا المؤتمر.
ورغم تلك الدعوات فإن جملة من الظروف، بعضها كردي محلي وبعضها إقليمي خارجي، حالت دون ذلك في الماضي، بينما تبدو الظروف الحالية أكثر من مشجعة، خاصة بعد أن جعلت الأزمة السورية الحدود الجغرافية مفتوحة بين المناطق الكردية في العراق وسوريا وتركيا إلى حد ما، وهو ما جعل التقارب بين القوى السياسية الكردية أفقا قوميا يوحد الأكراد ويفرض عليهم البحث عن مرجعية قومية بعد أن كانوا مشتتين ومنقسمين وأحيانا متنافسين ومتحاربين.
في ظل هذا المناخ الإيجابي كرديا عقد الاجتماع التحضيري للمؤتمر القومي الكردستاني برئاسة مسعود البارزاني ومشاركة 39 حزبا وحركة كردية من الأجزاء الأربعة والخارج، وقد ركز الاجتماع على القضايا التالية:
– ضرورة إيجاد إستراتيجية موحدة للقضية الكردية.
– توحيد الخطاب السياسي الكردي.
– توطيد العلاقات بين القوى والأحزاب الكردستانية.
– كيفية التعامل مع أنظمة الدول التي يتواجد فيها الأكراد.
– تفعيل النضال السلمي للقضية الكردية.
– مد جسور التعايش السلمي مع الشعوب العربية والتركية والفارسية.
– السعي للتوصل إلى حل سلمي للقضية أو القضايا الكردية بعيدا عن سياسة الصدام.
في الواقع، من الواضح أن هذا المؤتمر الذي هو أول مؤتمر جامع للأكراد سيكون بمثابة تأسيس أول مرجعية قومية كردية موحدة على طريق كردستان الكبرى، حيث بات هذا المصطلح يسود الخطاب القومي الكردي، إذ بتنا اليوم أمام مصطلح جنوب كردستان (العراق) وغربها (سوريا) وشمالها (تركيا) وشرقها (إيران).
في دلالات التوقيت
دون شك، لا يمكن النظر إلى توقيت هذا المؤتمر بمعزل عن التطورات العاصفة التي تشهدها المنطقة والتداعيات المتواصلة لثورات وانتفاضات الربيع العربي، ولا سيما الأزمة السورية التي أنهت عمليا التحالف الثلاثي السابق (التركي-الإيراني-السوري) ضد قيام أي كيان كردي في المنطقة، نظرا لتداعيات مثل هذا الكيان على مختلف مناطق الوجود الكردي في هذه الدول.
لقد أسفر الربيع العربي ومن قبله سقوط نظام صدام حسين في العراق عن تغييرات كبيرة في توازنات القوة للأكراد الذين أصبحوا لاعبا يحسب لهم الحساب في الصراعات الإقليمية والدولية.
ولعل ولادة إقليم كردستان العراق رسميا بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، ومن ثم صدور الدستور العراقي الذي نص على أن العراق دولة اتحادية فدرالية، وكذلك التجربة الناجحة نسبيا لإقليم كردستان العراق، كل ذلك جعل من إقليم كردستان قاعدة قومية لباقي الأقاليم الكردية.
فالبارزاني الذي قاد إقليم كردستان العراق يعتقد أن هذه التجربة يمكن أن تمتد إلى الدول الثلاث الأخرى، أي تركيا وإيران وسوريا، لتتوحد هذه الأقاليم في كردستان الكبرى، حيث أصبح إقليم كردستان العراق الجاذب السياسي لكل الحركات الكردية في هذه المرحلة.
كما أن أكراد سوريا وبفعل تطورات الأزمة السورية سريعا ما تحولوا إلى لاعب يحسب له الحساب في محيط جيوسياسي متداخل ساعدهم على أخذ زمام المبادرة في مناطقهم إلى درجة أنهم باتوا يطرحون إدارة ذاتية لإدارة شؤونهم.
وهذا التطور لا بد أن ينقل العدوى إلى أكراد تركيا الذين بات لهم جناحان سياسي وعسكري، وبات رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يخطب ودهم بفعل تعاظم دورهم ونفوذهم وأهميتهم في صنع السياسة الداخلية والخارجية لتركيا في الشرق الأوسط وبسبب ذلك كانت عملية السلام مع أوجلان في إيمرالي.
ومجمل هذه التطورات تؤثر في أكراد إيران الذين أقاموا أول دولة كردية في العصر الحديث عام 1946 بقيادة القاضي محمد الذي أعدمته السلطات الإيرانية بعد أن دك الجيش الإيراني عاصمته مهاباد (سندج) وأعدمته، فيما نجا وزير دفاعه الملا مصطفى البارزاني (والد مسعود البارزاني) من الإعدام بعد أن نجح في اللجوء إلى الاتحاد السوفياتي السابق مشيا على الأقدام.
ولعل اللافت في مجمل هذه التطورات ثلاثة عوامل أساسية:
1- إذا كانت الثورات العربية بعثت حالة من الانقسام والتصدع في المجتمعات العربية فإنها بالنسبة للأكراد بعثت حالة من التوحد والتقارب ووحدة المصير.
2- إذا كانت هذه الثورات نجحت عربيا في إيصال الإسلام السياسي إلى سدة المشهد فإنها كرديا عمقت من الشعور القومي والإدراك والوعي الوطنيين.
3- إذا كانت الثورات العربية شتت وأضعفت المكانة الرسمية للعرب في العلاقات الدولية فإنها فتحت الطريق أمام مثل هذه المكانة للأكراد.
وهنا يجب عدم نسيان دور النفط كعامل مهم في ربط المصالح الدولية بالأكراد حيث تزخر مناطقهم بهذه الثروة الإستراتيجية، التي تشكل مقوما من مقومات الدولة الكردية إذا ما رأت النور في المستقبل.
البعد الإقليمي
مع تفجر الجغرافيا السياسية وعيا قوميا كرديا قد لا تبدو الخلافات والاختلافات الإيديولوجية والسياسية بين الأحزاب الكردستانية قضية أساسية ومعيقة للتقارب الكردي-الكردي، فهذه الأحزاب التي فيها مختلف المشارب السياسية والأيديولوجية تبدو اليوم أمام مرحلة قومية يجد الجميع نفسه مندفعا إليها من بوابة تحقيق الحلم القومي.
كما أن التطورات الإقليمية العاصفة قضت على مرحلة استخدام الأنظمة الإقليمية للأكراد بعضهم ضد بعض، كما حصل مرارا في تسعينيات القرن الماضي (بين الاتحاد الوطني الكردستاني، والحزب الديمقراطي الكردستاني، وبين الحزبين وحزب العمال الكردستاني).
كما أن اختلاف الظروف بين الأجزاء الكردية لم يعد عائقا في وجه التقارب الكردي-الكردي الحاصل رغم اختلاف الظروف والمعطيات.
وعليه يكمن التحدي الأكبر أمام الأكراد في كيفية التوفيق بين مطالبهم القومية والسيادة الوطنية للدول التي يتواجدون فيها، في كيفية تحقيق تطلعاتهم القومية سلما دون الصدام مع الأنظمة والشعوب الأخرى، في كيفية جلب اعتراف إقليمي ودولي بكيانهم وتطلعاتهم القومية.
في الواقع، إذا كان كسر حاجز الخوف لعب دورا مهما في يقظة الشعب الكردي، وإذا كانت التطورات العاصفة فتحت الباب أمام الأكراد لتجاوز خلافاتهم والاتجاه نحو التقارب والوحدة، فإن تطلعاتهم القومية تبدو مناقضة للمنظومة الإقليمية التي تشكلت في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية.
كما تبدو أيضا في الموقع المضاد للهوية الوطنية للدولة الوطنية والقومية التي نشأت في المنطقة عقب هذه الحرب.
وفي الحالتين فإن الحلم الكردي يعني تغيير الخرائط الجغرافية والسياسية، وهو ما لن تقبل به الدول الإقليمية ولا سيما تركيا وإيران.
ويبدو أن الأكراد وبحكم تجربتهم التاريخية يدركون هذا الأمر تماما، وقد أشار إليه البازراني بشكل غير مباشر في الاجتماع التحضيري للمؤتمر القومي الكردستاني، عندما أكد عدم معاداة أي شعب أو دولة جارة وضرورة أن تكون رسالة الأكراد رسالة سلام وتعايش مع الشعوب المجاورة، وهو هنا يستهدي بتجربة إقليم كردستان التي تحولت إلى شبه دولة مستقلة من خلال انتهاج الوسائل السلمية والقانونية الممكنة.
من الواضح، أن ثمة قناعة كردية بأنه لم يعد باستطاعة أي نظام القضاء على تطلعاتهم القومية بالقوة العسكرية أو منطق الإلغاء والإقصاء، وأن الظروف الحالية وفرت فرصة تاريخية لتحقيق هذه التطلعات، وأن النضال السلمي والوعي بالحرية والديمقراطية وفرا للأكراد التأسيس لمرجعية قومية موحدة تحدد إستراتيجية القضية في المرحلة المقبلة.
هناك من يرى أن القرن الحادي والعشرين بات ينبئ بمثل هذا الحلم، فالأكراد يستعيدون وحدتهم ووعيهم القومي ويمتلكون المقومات الاقتصادية والسياسية والبشرية الاجتماعية والعسكرية التي نقلتهم من مجرد تنظيمات عشائرية وعائلية إلى قوى سياسية محترفة تعرف كيف تدير السياسات والأمور على الأرض.
كما أن الجغرافيا السياسية الغنية بالنفط والغاز والأدوار السياسية باتت تجلب لهم المصالح الدولية، بانتظار المؤتمر القومي الكردستاني الذي سيعقد في أربيل وما سينتج عنه.
ويمكن القول إن مطلع القرن الحادي والعشرين يشبه كثيرا مطلع القرن الذي سبقه بالنسبة للأكراد في الاقتراب من تحقيق حلمهم القومي، ولعل السؤال أو التحدي الذي يطرح نفسه هنا هو، هل سينجح الأكراد في تحقيقهم حلمهم هذه المرة بعد أن حرموا منه خلال القرن الماضي على مذبح الاتفاقيات والمصالح الدولية؟
الجزيرة