منذ نشر مؤسسة “راند” الأمريكية للتحليل، القريبة من البنتاغون، تقريرها حول احتمال حدوث انقلاب عسكري جديد في تركيا في ضوء النهج القومي للسياسة التركية التي يتَّبعها أردوغان، لم يتوقف الجدل في داخل تركيا حول احتمال حصول مثل هذا الانقلاب، بل أن أردوغان نفسه اضطر للحديث عن الأمر، عندما علق على التقرير، قائلا: “إنها مقاربة تهدف إلى إبعاد تركيا عن تحقيق أهدافها الرئيسية”، مع أن كلام أردوغان عكس في جانب منه إجراءاته ضد المؤسسة العسكرية التركية طوال السنوات الماضية باسم الإصلاح إلا أنها جاءت عكس حقائق الواقع التركي، والتي تؤكد أن أردوغان يعيش هاجس حصول انقلاب عسكري ضده، إذ منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة صيف عام 2016، يعيش أردوغان هذا الهاجس، وبسبب ذلك، اتخذ سلسلة خطوات، يمكن تلخيصها في بندين متكاملين:
الأول: شن حملة اعتقالات واسعة في صفوف الجيش، بينهم قادة كبار، بحجة التورط في المحاولة الانقلابية الفاشلة، ودعم جماعة الداعية فتح الله غولن، فيما الحقيقة، كان الهدف الأساسي من هذه الحملة، هو إبعاد العناصر غير الموالية له من قيادة الجيش ومؤسساته، وزرع الموالين له ايديولوجيا وسياسيا في مواقع القيادة، ولعل معظم قادة الجيش الذين عيَّنهم أردوغان في الفترة الأخيرة، هم من خريجي معاهد إمام الخطيب التي تشكل الخزان البشري لكوادر حزب العدالة والتنمية الحاكم، وبسبب سياسة أردوغان هذه، اضطر الكثير من ضباط الجيش للهروب إلى خارج تركيا أو البقاء في منازلهم، واللافت أن إجراءات أردوغان استهدفت بشكل أساسي القوى الجوية التركية، إذ ثمة تقارير تقول إن نصف الطيارين الأتراك أصبحوا خارج الخدمة، وأن تركيا باتت تعاني من نقص شديد في الطيارين الذين يقودون طيارات (إف – 16)، وبسبب ذلك اضطرت السلطات التركية إلى استدعاء الطيارين المتقاعدين للخدمة مجددا لسد الفراغ الحاصل، وفي مقابل ذلك ركز أردوغان على تطوير القوات البرية من جيش وقوات خاصة وشرطة وأمن.
الثاني: تعديلات دستورية جوهرية بهدف إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، ودور هذه المؤسسة في الحياة العامة التركية، ولعل من أهم هذه التعديلات، تعديل (المادة 35) التي كانت تنص بالحرف على أن مهمة الجيش هي (حماية الجمهورية التركية العلمانية) وتعديلها إلى مهمة (الدفاع عن المواطنين الأتراك ضد التهديدات والمخاطر القادمة من الخارج والمشاركة في العمليات الخارجية التي يقرها البرلمان).
لعل من يدقق في مضمون هذا التعديل، سيجد أن الهدف الأساسي لأردوغان منه، هو الحيلولة دون وقوع انقلاب عسكري ضده، إذ أن المطلع على وضع تركيا يعرف جيدا أن الجيش التركي انطلق من هذه المادة للقيام بسلسلة انقلابات عسكرية (1960 – 1971 – 1980 – وصولا إلى ما عرف بالانقلاب الأبيض ضد أربكان عام 1997)، فأردوغان هدف من هذا التعديل حصر مهمة الجيش بالخارج فقط وإبعاده عن الداخل، وبالتالي أي تحرك في الداخل، ستكون تهمة التحضير لانقلاب عسكري ضد نظام أردوغان بانتظاره، ولعل هذا ما يفسر مضمون تعليق أردوغان على ما ذهب إليه تقرير مؤسسة “راند” من جهة، ومن جهة ثانية إصراره على إبعاد الجيش عن الداخل وإشغاله بالخارج، ولاسيما في ساحات سوريا وليبيا والعراق واليونان.. وغيرها من الساحات التي باتت تشكل مستنقعات للجيش التركي، بعد أن حوله أردوغان إلى مجرد أداة لتنفيذ أجنداته في الخارج حيث طموحاته العثمانية الجامحة، وسلاح أردوغان في كل ذلك، كان تغير تلك القاعدة التاريخية في تركيا والتي تقول (إن الجيش يحمي الدستور والدستور يحمي الجيش) وتحويلها إلى قاعدة (كل شيء يجب أن يكون بأمر أردوغان) ولاسيما في ظل النظام الرئاسي الذي شيَّده، وتنصيبه نفسه سلطانا مطلق الصلاحيات، ورغم كل ذلك، فإن هاجس الانقلاب لا يغادر ذهن أردوغان، إذ أنه يدرك تماما أن المؤسسة العسكرية التركية والتي هي أعرق مؤسسة في البلاد منذ تأسيس الجمهورية التركية 1923، مازال شعارها الأساسي هو حماية المبادئ العلمانية للدولة التركية، وأن هذه المؤسسة كانت تتحرك وتعود إلى الواجهة كلما وجدت أن حاكم البلاد يريد تغير هوية الدولة وخياراتها السياسية الاستراتيجية، كما حصل في عهد عدنان مندريس، ولعل ما يزيد مخاوف أردوغان هذه، هو قناعة نظامه بأن تقرير مؤسسة “راند” كان تعبيرا عن توجه في السياسة الخارجية الأمريكية، ولعل هذا ما يفسر استمرار الجدل الكبير في الداخل التركي حول هذا التقرير.
مقابل هذه القناعة باحتمال وقوع انقلاب عسكري جديد، ثمة من يرى أن القضية لا تخرج عن تكتيات استغلالية من أردوغان نفسه، بهدف خلق المزيد من الرعب في الداخل التركي، ودفع هذا الداخل إلى الالتفاف حوله بعد أن بدأت سياساته التدخلية في سوريا وليبيا تنذر بتداعيات كبيرة على تركيا واقتصادها وعلاقاتها الخارجية، وعليه لا يرى هؤلاء أن احتمال حصول انقلاب عسكري غير وارد، خاصة بعد الضربات التي وجهها أردوغان إلى المؤسسة العسكرية التركية طوال السنوات الماضية.
في جميع الأحوال، سواء كان الحديث عن احتمال حصول انقلاب عسكري جديد في تركيا حقيقيا أو في إطار استغلال أردوغان هذا الأمر لحساباته الداخلية، فإن الجدل الجاري بهذا الخصوص يشير إلى قضية مهمة في الحياة التركية، وهي غياب الثقة بين أردوغان والجيش الذي ما زال ينظر إلى نفسه على أنه المدافع الأول عن مبادئ الأتاتوركية، خاصة وأن العقيدة العسكرية للجيش التركي تبقى مغلقة على بنية عسكرية، نشأت بفعل المبادئ التي أسس عليها من جهة، ولعلاقته الأمنية تاريخيا بالحلف الأطلسي من جهة ثانية، وهو ما يجعله قادرا على التحرك ولو عبر القوى السياسية والحزبية في الشارع كما حصل في مصر ضد حكم مرسي.
عن موقع نورث برس