خالد الحروب : درس ديمقراطي من كردستان

Share Button

لا تزال الديمقراطية العربية عرجاء. ويدفعنا عرجها للتطلع إلى الجوار مرة هنا. ومرة هناك. وهذه المرة إلى إخوتنا الأكراد ونجاحهم الديمقراطي الذي نرفع له القبعاتتنزيل

الحديث عن الانتخابات والديمقراطية الكردية تستدعيه حاجتان. الأولى الإشادة بها وبما تكرسه من مأسسة للديمقراطية. والثانية إعادة طرح السؤال لماذا تنجح كل الديمقراطيات المجاورة للعرب (كما في تركيا. في إيران. في إسرائيل. في كردستان. ثم بعيدا في بلدان إسلامية مثل ماليزيا. وإندونيسيا) فيما تفشل ديمقراطيتهم؟ الانتخابات التي نظمت في كردستان العراق آخر الشهر الماضي ونجاحها ونتائجها وما رافقها من ممارسة سياسية وديمقراطية تنتزع الاحترام. لم تكن العملية خالية من العيوب. ذاك أنه وكما في معظم الانتخابات في مناطق العالم. وتبعا لما أوردته تقارير صحفية وتصريحات لأحزاب معارضة. سجلت بعض التجاوزات والانتهاكات هنا وهناك. لكن في المجمل العام رسخت هذه الانتخابات العملية السياسية وعملت على تعميق الممارسة الديمقراطية. وأكدت على التمرين القاسي بتبادل مواقع الفوز والخسارة في المعارك الانتخابية. في هذا الإقليم. وسواه من الأقاليم الكردية سواء في تركيا أم إيران أم سوريا. عانى الأكراد من ظلم تاريخي امتد لعقود طويلة واصطبغ تاريخهم مع جيرانهم بالصراع والدم. وكذا اصطبغت صراعاتهم الداخلية وانشقاقاتهم. بيد أنهم يخرجون الآن. وفي جزئهم العراقي. من تاريخ الصراع إلى تاريخ البناء المؤسسي. ويقدمون لنا. نحن جيرانهم العرب الكثر. درسا في الديمقراطية وفي البناء! ينتقل الصراع من ميادين الرصاص والعنف إلى ميادين السياسة وصناديق الاقتراع.

في الانتخابات الأخيرة والتي تجاوزت نسبة المقترعين فيها 74% تنافس الحزبان الرئيسان. الاتحاد الوطني الكردستاني (بقيادة جلال طالباني). والحزب الديمقراطي الكردستاني (بقيادة مسعود برازاني). مع أحزاب المعارضة. وأهمها حركة تغيير (كوران). والحزب الإسلامي الكردستاني وأحزاب أخرى أقل تأثيرا. أحد الحزبين اللذين هيمنا على السياسة الكردية لعقود طويلة. وهو الاتحاد الوطني الكردستاني. مُني بخسارة ثقيلة. وفقد موقعه كثاني أكبر الأحزاب الكردية في السياسة وفي التمثيل البرلماني. وتقدم عليه أهم حزب معارض. حركة تغيير. ليحتل الموقع الثاني بعد الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي حافظ على تصدر المشهد والأغلبية البرلمانية. هذا ما تقوم به عبقرية الديمقراطية من تعديل للمواقع ومكافأة الأحزاب العاملة بجد ومعاقبة المتكاسلين أو المسترخين على أوهام إنجازات الماضي أو إرث التاريخ.

بيد أن الدرس الأهم والأكثر إيقاعا تمثل في الكيفية التي تلقى فيها الاتحاد الكردستاني خسارته الانتخابية القاسية. وهنا يستحق الحزب وقادته الذين أقروا بالخسارة. التقدير والاحترام. فعلى إثر الخسارة أصدر الحزب بيانا قال فيه: “إن نتائج الانتخابات مقلقة وليست مفرحة.. وأن الحزب يتحمل المسؤولية الكاملة عنها. وسيعيد النظر في آليات عمله. مثلما يحترم إرادة الشعب ويتلزم بها”. لم يخرج الحزب إلى الإعلام ليلفق اتهامات بأن الانتخابات مزورة. ويطعن في العملية برمتها. بل توجه إلى نفسه بالنقد الذاتي. مقرا بأن الخسارة سببها سوء الأداء. وفي الوقت ذاته احترم إرادة الشعب التي اختارت غيره.

لا يتوقف الأمر عند ذلك. بل أبعد منه ما صدر عن برهم صالح نائب رئيس الاتحاد الكردستاني من إقرار بالهزيمة واحترام لإرادة الشعب. واتهام حزبه ذاته بمحاولة التزوير في بعض المناطق وإدانته لتلك الممارسة بكونها ضد إرادة الناخب الكردي وتصادر قراره الحر. وفي تصريحات نقلها الإعلام يقول صالح: “إن النتائج الأولية لأعضاء الاتحاد الوطني في انتخابات الإقليم تظهر بأن الجماهير غير راضية عن أداء وسياسة الاتحاد الوطني وأسلوبه في إدارة مهامه للمرحلة الراهنة.. وأن الخسارة مُرّة ولكن التهرب من قرار الشعب مخجل وأن أي شخص أو جهة تحت أي ذريعة كانت إذا ما سعت للتلاعب في قرار الشعب فإنها تخالف قرار المكتب السياسي وقيادة الاتحاد الوطني فضلا عن أنها تخالف إرادة أعضاء الاتحاد وأي مسعى بهذا الخصوص يُعد أمرا مخجلا.. (مشددا) على ضرورة التزام المكتب السياسي للاتحاد بإرادة شعب كردستان والتمعن في رسالة العتب والنقد التي بعثها ومراجعة سياسات الاتحاد وقيادته. وأسلوب عمله على أمل الحصول على دعم وثقة الشعب”.

أيا ما كانت خلفية تلك التصريحات والتي يقلل البعض من شأنها ويحشرها في نطاق الصراع داخل حزب الاتحاد الوطني الكردستاني. إلا أنها والعملية برمتها يجب أن تدفعنا للتأمل. عربيا. في وضعنا نحن وفي معظم الدول العربية برؤية نقدية والتساؤل لماذا تستعصي الديمقراطية العربية وتتقدم غيرها. كل الأطروحات التي وقفت في وجه الديمقراطية في دول ما بعد الحقبة الكولونيالية تفككت أطروحة إثر الأخرى. ولم تعد هناك أي منها تمتلك الطاقة على الاستمرار. وتبعا لذلك فقد قصرت إعمار النظم الاستبدادية في العالم والمنطقة. وبدا تيار الديمقراطية وموجتها زاحفاً كقدر تاريخي. تآكلت أطروحة تأخير الديمقراطية حتى تنتهي الدول الناشئة والمستقلة حديثا من طور البناء الاقتصادي والاجتماعي. وتأمين الطبقة الوسطى التي تشكل البنية التحتية التي تقف عليها الديمقراطية بصلابة. وبرزت تجارب ديمقراطية ناجحة في دول فقيرة. وفي دول تعدادها السكاني مهول مثل الهند. وتآكلت أطروحة إثارة العداء للديمقراطية والحداثة بمسوغ أنهما منتجات غربية وامبريالية يفرضها المتروبول الاستعماري على الهوامش العالمثالثية. وثبت أن كل تلك المقولات لم يكن لها هدف سوى تسويغ الاستبداد “النضالي” الذي استظل بمظلة الأخ المُستبد الأكبر في موسكو خلال الحرب الباردة. كما تآكلت أيضا مقولتان أخريان استخدمتا “لدرء” الديمقراطية عربيا بسخاء وتكرار. وهما الانشغال في الحرب مع إسرائيل. والخصوصية الثقافية. وُظفت الأولى من قبل أنظمة على اليسار وعلى اليمين. وتحت شعار “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” قُمع صوت الشعب نفسه وأخرس وتم الحجر على إرادته وكأنه مجموعة من المعوقين الذين لا حق لهم في شيء سوى السمع والطاعة والتبعية. مرت عقود طويلة على صوت المعركة ودفن الديمقراطية فلم ينتج عن تلك المعركة الصورية سوى سلسلة من الهزائم. أما الخصوصية الثقافية فقد اشتغلت بفاعلية أيضاً لكن هاهي تستنزف طاقتها وفاعليتها. فهنا تكررت مقولات عدم موائمة الديمقراطية مع “الثقافة” العربية والتقاليد ومع الدين أيضا. وأن ما يسود في البلدان العربية هو أنماط حكم تقوم تقليديا وعرفيا على الاستئثار بالحكم من قبل القبيلة والعائلة. وكأن الاستبداد مكتوب كقدر ثابت على العرب ويسري في دمائهم. لم يعد لأي من تلك الطروحات مكان مُعتبر في ثقافة اليوم. ومع ذلك لا تزال الديمقراطية العربية عرجاء. ويدفعنا عرجها للتطلع إلى الجوار مرة هنا. ومرة هناك. وهذه المرة إلى إخوتنا الأكراد ونجاحهم الديمقراطي الذي نرفع له القبعات.

نقلا عن جريدة الشرق القطرية

Share Button

عن PDPKS

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد الجديد 88 من جريدة التقدمي

  صدر العدد (88) من جريدة التقدمي الشهرية الصادرة عن مكتب الثقافة و الاعلام في ...