أبرزت واقعتان لافتتان مكانة المسألة الكردية ودورها في الشرق الاوسط (أو الأدنى): الأولى انسحاب قوات بشار الاسد من المناطق الكردية وترك تسييرها وإدارتها الى الأحزاب الكردية، وحزب الوحدة الديموقراطية منها، والثانية إجراء مفاوضات بين تركيا وحزب العمال الكردستاني، المنظمة الكردية الاولى، وذلك في اعقاب مرحلة دموية من القمع الشديد. والواقعتان قرينة مزدوجة على أن المسألة الكردية قضية داخلية في الدول المعنية، أي إيران والعراق وسورية وتركيا، وقضية اقليمية. وتفاعل المستويين حقيقة ظاهرة، لا مهرب من الإقرار بها.
الطبيعة المزدوجة للمسألة الكردية ظهرت في صورة جلية غداة حرب الخليج في 2003، ثم مع حصول المحافظات الكردية العراقية الثلاث على صفة اقليم كردستان الاتحادي في دستور العراق 2005 الذي خص الاقليم بعدد من المواد الموقتة، منها مادة تتناول مدينة كركوك، لم تسلك طريقها الى التطبيق بعد. ووضع الاقليم الاتحادي كردستان العراق مثالاً وقدوة في المناطق التي يسكنها الكرد. وصاحبت بروز الإقليم حركة احتجاج في سورية (2004)، وتجدد العمل المسلح في ايران وتركيا.
ولا شك في ان الحراك السياسي والعسكري داخل المناطق الكردية المتفرقة كان وليد الدور الذي اضطلع به الإطار الجغرافي المشترك، من جهة، والمواتاة الظرفية السياسية، من جهة أخرى. وقد يكون العامل الاقوى في التغيرات التي شهدها النصف الاول من العقد الماضي هو «تعايش» أجيال من الناشطين أو المناضلين واندماجهم في اطار تعبئة متعاظمة منذ منعطف الثمانينات من القرن المنصرم. ويصح القول في هذا المنعطف انه شهد ولادة «كتلة فرعية» وإقليمية كردية، على رغم الفروق والتباينات الداخلية الكثيرة، اللغوية والطائفية والمحلية والعمرية. لكن الرابطة الكردية الجامعة تتخطى هذه الفروق وتمتص بعض آثارها.
وليس «عبور» الحدود التي تفصل بين الكرد المنتشرين في الدول المتجاورة ظاهرة جديدة. فالجديد هو الظرف الذي يمر به الشرق الاوسط ويذكّر بمنعطف الثمانينات. وأحوال الكرد في المنعطفين ليست واحدة ولا متشابهة. فقبل 30 سنة، كانت الحرب مستعرة بين عراق صدام حسين وإيران آية الله الخميني، ثم لم تلبث أن انقلبت الى حرب دارت رحاها على الكرد، وقتلت منهم أعداداً كبيرة بواسطة السلاح الكيماوي في العراق. وشنّ الجنرالات حملة إرهاب على كرد تركيا، وحرّموا كل تعبير عن الرابطة الكردية الجامعة. فاضطرت المنظمات الكردية العسكرية الى عقد أحلاف مصلحية، منافية لمنطق السياسة، مع الدولة العراقية والدولة السورية والدولة الايرانية، لتتلافى التدمير على يد القوة العسكرية التركية. ونشأ «شتات سياسي» في أوروبا جمع اللاجئين الكرد والهاربين من القمع أياً تكن أوطانهم الأولى.
وبعد 30 سنة، تضافرت 4 عوامل لإخراج المسألة الكردية من هامشيتها. العامل الأول ولادة الإقليم الاتحادي الكردي في العراق، وربما أضعفت أثر هذا العامل النزاعات بين الاقليم الوليد والسلطة المركزية في بغداد، والمشكلات الداخلية المتكررة مثل الفساد المزمن وقلق الشباب الباحثين عن اندماج سياسي واجتماعي مستجيب حاجاتهم ورغباتهم. لكن النزاعات والمشكلات الحقيقية لا تحول دون تمتع المنطقة الاتحادية بدينامية مشهودة. وتتسابق شركات النفط الدولية على خطب ودّها، ومعاملتها كأنها شبه دولة. وهي تشبه الدولة شبهاً قوياً، بجيشها الخاص ومراقبتها حدودها الخارجية والداخلية (العربية) وعلاقاتها «الديبلوماسية». وتستقبل «منطقة كردستان» في العراق عشرات الآلاف من التجار والطلاب والمقاتلين والمنفيين الكرد، من جهات كردستان كلها. وكانت تركيا، الى عامي 2007-2008، خطراً يهدد هذا الكيان، قبل ان تنقلب حامية له، وشريكة في استغلال نفطه وعوائده التجارية والصناعية.
والعامل الثاني هو الاستقلال الذاتي الذي حازته المنطقة الكردية في سورية منذ صيف 2012، وانتزعته من بشار الأسد الذي أدرك، بعد عقد من القمع، ان ليس في مستطاعه السيطرة على اراضي سورية كلها. وانسحاب الأسد كان نوعاً من رد على سياسة تركيا المؤيدة للمعارضة السورية. فالمنطقة الكردية في سورية وقعت تحت سيطرة حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي، القريب من حزب العمال الكردستاني. واضطلعت حكومة إقليم كردستان العراق بوساطة فاعلة بين الأطراف الكردية السورية، ومهّدت الطريق الى تحالفها في جبهة واحدة. والعامل الثالث في إخراج المسألة الكردية من هامشيتها الاقليمية، هو استئناف محمود أحمدي نجاد قمعَ سكان كردستان ايران، والتضييق عليهم، بعد تلويح محمد خاتمي لكرد إيران بإصلاحات تزيل الغبن اللاحق بهم. فقاطع كرد إيران الانتخابات «الوطنية»، وصرفوا جهدهم في إحياء ثقافي وتاريخي داخلي، بمعزل من الاطار الايراني.
والعامل الرابع هو تآكل الكمالية، وقصور العقيدة الرسمية التركية عن تعبئة الاتراك في حركة مناهضة للاعتراف بحقوق الكرد الوطنية في تركيا. وبينما يتردد حزب العمال الكردستاني بين الكفاح المسلح والمقاومة المدنية السلمية، تنهض كتلة كردية كبيرة تتألف من حزب السلام والديموقراطية، المعترف به، ومن هيئات محلية كثيرة، بدور قيادي وغير منازع في معظم أنحاء كردستان. وهناك واقعة كردية داخلية- تضاف الى العوامل الأربعة وليست أقل منها أثراً- هي قبول الجماعات الكردية، في أوطانها الشرق الأوسطية وفي المهاجر الأوروبية، بالتعدد السياسي والفكري، وانتدابها الى برلمانات الدول الاوروبية نواباً من اصول كردية، وقيامها بأدوار ثقافية وفكرية فاعلة في الصحافة والسينما والادب والموسيقى والبحث الجامعي… ويتخطى الانخراط «الكردي» الالتزام الحزبي والسياسي. وهذا لم يسبق الكرد، في تاريخهم الطويل خصوصاً في القرن العشرين، أن قاموا به. فقضيتهم، اليوم، تتوسل بقضايا أخرى، مثل النسوية وحماية البيئة، الى تأييد مشروعيتها، ومساندتها.
فهل يؤدي الكرد اخيراً دوراً محورياً في الشرق الاوسط، بعد عقود من التهميش؟ يقتضي الجواب النظر إلى تحولات الأعوام الأخيرة، وتقويم حوادثها واحتمالاتها تقويماً دقيقاًَ وحذراً. ولبعض هذه الاحتمالات، مثل مستقبل ايران، أثر عميق. فالنظام الحاكم في ايران يشكو العزلة، لكن تأثيره في مناطق التوتر الاقليمية لا يُنكَر، وأدى نفوذه الى تطييف العلاقات بين الدول. ومن غير تغيير داخلي عميق، يتوقع أن يستمر الضرر الذي يلحقه النظام بالأحوال الإقليمية المضطربة، وفي دائرتها الكردية الداخلية كما في دوائرها العراقية والتركية والسورية. ويلمس المراقب أن الحلف الذي جمع طهران ودمشق وأنقرة، في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، طوي وحلّ محله وضع يترجح بين الحرب والسلم (في علاقة تركيا بالدولتين الاخريين).
و «الوضع السوري» يلقي بثقله وبحرب خنادقه على دول المنطقة وبعض الجماعات الأهلية، ويمنعها من توقع مستقبلها، ومن العمل في سبيله على نحو ما تريد وتشتهي. ويصيب الاضطراب، في من يصيب، المنطقة الكردية إذ يبث الخلافات في صفوف الكرد، ويهدد بتفاقمها. وقد يقود التقارب بين كردستان العراق وتركيا، حزب العمال وحزب الاتحاد الديموقراطي (السوري) الى «تحالف موضوعي» مع النظام السوري. وكان الكرد ابتعدوا عن المعارضة السورية المسلحة حين بدا ان الالتزام القومي العربي والاسلامي الجهادي يغلب على بعض فصائلها.
ويلقي بظلال شك على مستقبل تركيا السياسي، ان القوتين البارزتين هما «حزب العدالة والتنمية» والحركة الكردية اللتان تتقاسمان، كل في مناطقها، السيطرة، وليس في مقدور الواحدة تجاهل الاخرى. وسمة حزب العدالة والتنمية رسوخه وقوة جذوره، ومصدر ضعفه هو دَيْنه بهذه القوة الى رئيسه ومؤسسه رجب طيب أردوغان. وشطر كبير من النواب تغلب عليه ميول وطنية، وينظر بريبة الى المفاوضات بين الحزب الحاكم والحزب الكردي المقاتل (حزب العمال)، فيما أردوغان نفسه لا يرى أن المسألة الكردية سياسية في المرتبة الأولى، ويختصرها في مشكلة تحول دون استقرار تركيا وتبوّئها مكانة أولى في صدارة القوى العالمية الناشئة. وهذا يحمل المجتمع الكردي على ضيق الأفق، على خلاف الدينامية التي غذت حركته في السنوات الأخيرة.
عن «اسبري» الفرنسية
حميد بوزارسلان: مدير دراسات من اصل كردي تركي