نادراً ما تشرذمت معارضة في بلدان العالم كما هو حال تشرذم المعارضة السورية حالياً، فقد تأسست عشرات فصائل المعارضة السورية في الداخل والخارج، حتى أصبح بإمكان كل عشرة أشخاص، إذا أرادوا، أن يؤسسوا فصيلاً معارضاً، ويتحدثوا باسم الشعب والأمة، ويتوهموا أنهم يرسمون مستقبل البلاد ويحملون عبء تحررها.
يحاول بعض فصائل هذه المعارضة كسب ود السلطة من خلال معارضته الشكلية، وتجده في الواقع يبحث في أحاديثه وخطابه السياسي عن مخارج للأزمة السورية ألصق بمصلحة النظام القائم منها بمصلحة الخلاص الجدي للشعب السوري من الأزمة التي تهيمن على مختلف جوانب حياته وتهدد دولته ومستقبله إضافة إلى حاضره، بينما تطرف بعض الفصائل المعارضة الآخر إلى الدرجة التي أصبحت تسيّره فيها غرائزه وبحثه عن الشعبوية ولم يعد يرى المهمات الوطنية الملقاة على عاتق المعارضة والمسؤولية الكبرى التي تتصدى لها> وبدلاً من أن يكون مهموماً بخلاص سوريا وشعبها تراه يدور حول ذاته ويسعى لخلاصه الشخصي، ولا يرى أي وسيلة لبلوغ هدفه سوى التطرف والإدانة والرفض العبثي واختيار أسهل الحلول لفظاً وأصعبها منالاً أو تحققاً أي الحلول المتطرفة التي تربحه شعبوية من دون أي إمكانية واقعية لنهايات سعيدة.
الملاحظ بشكل عام أن صفات عديدة تنطبق على فصائل المعارضة السورية، فبعض المشاركين في هذه الفصائل (جديد صنعة) ومتدرب وهاو سياسي لم ينشط يوماً بالعمل السياسي، ولم يكن يهتم به سابقاً، كما لم يشارك لا في نضال من أجل تطوير النظام أو معاداة السلطة، ولا في حوار لبناء مستقبل أفضل، ولم يهتم قبلاً حتى بالتيارات الثقافية والسياسية الموجودة في بلده، ولا يعرف نشطاءها ولا مناضليها، ووجد نفسه فجأة ومن دون مقدمات كافية قائداً مشاركاً في المعارضة، يعتقد أنه صالح لإدارتها وقادر على إسقاط السلطة بإشارة من إصبعه أو بتصريح تلفزيوني ناري يصدح به. وليس غريباً ولا مفاجئاً، في الوقت نفسه، أن يكون جاهلاً بطرق حلول أزمات مثل الأزمة السورية ولا يعرف سوى نقد النظام والمطالبة بإسقاطه من دون معرفة مدى صلفه واستعداده للقمع والظروف التي تمر بها البلاد والمنطقة والعالم، والشروط السياسية والاقتصادية والشعبية المحيطة التي تكونت تاريخياً. وهناك أيضاً معارضون يصرون على أنهم الوحيدون الذين يملكون الشرعية التاريخية لمواجهة هذا النظام ووراثته، وبالتالي لا يرون من الظروف والشروط التي أشرت إليها إلا حقهم بالوراثة وتولي السلطة، ويدورون بدورهم حول ذواتهم في حلقة مفرغة.
إن بعض فصائل المعارضة السورية القائمة الآن لا يرى غضاضة في التدخل العسكري الأجنبي ضد النظام السوري، بل يستدعي هذا التدخل ويرحب به، وهو عاتب على الأميركيين والأوروبيين الذي لم يستجيبوا، منذ بدايات الانتفاضة واستخدام النظام وسائل العنف، لمطالبه في غزو سوريا عسكرياً وإسقاط النظام وتسليمه السلطة، حتى لو كان قدومه الميمون على ظهر دبابة أجنبية (وهو الأمر الذي أعابه على المعارضة العراقية بعد الغزو الأميركي للعراق)، ويفترض أن هذا الأمر سهل ومتيسر ومبرر أخلاقياً وقومياً. وأخيراً أشير إلى بعض المعارضين الذين لا يجدون عيباً في سلوكهم الذي أوصلهم إلى قبول تمويل خارجي ثمن نشاطهم ونضالهم، بل يفتخرون أحياناً بتعاونهم مع بعض الدول الأخرى والامتثال لمطالبها، وانسجامهم مع سياساتها وتحولهم إلى أداة بيدها من دون تحفظ.
أما فصائل المعارضة المسلحة، التي لا قيادات سياسية لمعظمها، والتي لا ترى لأبعد من معاركها اليومية مع قوات النظام، وأعمالها العسكرية بعضها ضد البعض الآخر، من دون أن ترى الأهداف العامة وبعيدة المدى لنضالها المسلح، فلا يخطر ببالها أن تتوحد في جيش واحد له قيادة واحدة ونهج عمل موحد، ويمارس سياسة تحقق التناغم بين نشاطات فصائله المتعددة، وينسق ليس فقط بين النشاطات العسكرية لأطرافه، وإنما أيضاً مع قرارات القيادة السياسية للمعارضة. وفي الخلاصة صارت المعارضة معارضات متعددة الأشكال والألوان، منها من يملك الاستراتيجية ومنها من يستغرقه التكتيك، وجميعها ترفض الاتحاد أو التنسيق، ويوكل كل فصيل لنفسه حق مواجهة النظام وحيداً متوهماً الوصول إلى حل، ولذلك لم تصل هذه المعارضة خلال سنوات أربع إلى أي حل، بل لم تصل على الأقل إلى تنسيق بين أطرافها كما هو شأن المعارضة المسلحة في مختلف بلدان الدنيا. لقد استخف الأميركيون والأوروبيون وبعض العرب أيضاً بهذه المعارضة لهذه الأسباب، وأخذوا يوجهون إليها الأوامر وكأنها ورشات عمل موظفة لديهم وتابعة لهم ولا يحق لها أن ترفض أمراً أو حتى تناقشهم فيه. بل وصل الحال ببعض الدول لأن تقرر أسماء قيادات ومجالس بعض فصائل هذه المعارضة، وتلّوح لها بحال الرفض أو المخالفة بوقف المساعدات المالية والتسليحية. وفي المحصلة، لم تعد فصائل المعارضة هذه سوى مجموعات تشبه الفصائل التابعة للآخرين تأخذ برأيهم قبل أن تأخذ برأي شعبها، وهذا ما أدى إلى عدم استشارتها أو أخذ موقفها بالاعتبار من قبل الدول الأخرى، فأوقف بعض هذه الدول الدعم المالي وأوقف بعضها الآخر الدعم التسليحي، واستخف البعض الثالث بإمكانياتها وترسخت قناعته بعدم فعاليتها.
إن تشرذم المعارضة السورية هذا وبؤسها، سواء كانت سياسية أم مسلحة لم يُبْقِ لها أي قدرة على عمل أي شيء سوى مقابلة مبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي ميستورا وعرض وجهات نظرها أمامه، وهي تعلم أنه يقابلها ويستمع إليها كتحصيل حاصل واستجابة لأصول المهنة والمهمة المكلف بها وليس لأنه ينتظر منها آراء حكيمة أو يعتبر أن أدوارها فعالة، وعلى الأغلب يعتقد دي مستورا أنها لا تصلح إلا أن تكون غطاءً له بعض الشرعية ليتوج أي حل يصل إليه الآخرون ليزعموا أن الشعب السوري يقبل هذا الحل ويتبناه.
إن تشرذم المعارضة وعدم امتلاكها سياسة واضحة وأهدافاً محددة ووسائل ناجعة لمواجهة النظام، بل ودوران معظمها حول ذواتها في دوائر مغلقة لا تطاول الواقع السياسي القائم ونشاطات النظام ودور القوى الخارجية، هذه العوامل كلها أدت إلى أن يزداد أهل النظام تطرفاً وتعصباً ورفضاً لمطالب الشعب المشروعة وقمعاً وفساداً ولجوءاً كلياً للحل العسكري، ولا يحسبون حساب الشعب وقواه، ويعتبرون أن الحل يتم في ما بين الدول خارج الحدود لا بينهم وبين المعارضة السورية السياسية منها والمسلحة.
لعل وضع المعارضة السورية الشاذ وضعفها المشهود هما اللذيان أوجدا علاقة جدلية تزيد ضعفها وتخرجها من اللعبة السورية برمتها، حتى صارت الأزمة السورية مواجهات بين النظام وبين بعض الدول الأخرى، وأدت بالشعب السوري أن ينتظر نتيجة هذه المعركة التي يتفرج عليها، لكنه، في الوقت نفسه، يتحمل آثام الأزمة وأهوالها ويواجه الذل والعوز والظلم والجوع والنزوح إضافة إلى البرد والفقر وفقدان الأمل بالحاضر والمستقبل وبأي عيش كريم، ويشهد بأم عينه تحول سوريا من زهرة عربية ومثال مشتهى إلى دولة فاشلة وشعب مشرد ذليل في بلده وفي البلدان الأخرى.