يبدو ان الجحور التي تختفي فيها عقارب وأفاعي النظام التركي كثيرة. وهو في كل مرة يوحي للعالم العربي، ولدول الجوار، بالذات، بأنه قد اتخذ قرارا استراتيجيا حاسما، ولا رجعة فيه، في خدمة مصالح العرب والمسلمين، ومصالح تلك الدول بعين الاعتبار، في كل سياساته وعلاقاته المستقبلية مع مختلف القوى ذات التأثير الأساسي على قضايا ومشكلات المنطقة في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية،. بل يحاول ان يدفع الجميع الى توهم ان أنقرة بقيادة حزب العدالة والتنمية وزعيمه اردوغان، قد أصبحت في الصف العربي وأنها مستعدة لتقديم كل التضحيات الممكنة في خدمة مصالحنا الأساسية ولو اقتضى ذلك مواجهة أعتى القوى وأشد الأعداء ضراوة في مواجهة العرب والمسلمين.
لكن حاكم أنقرة لا يفوت أي فرصة تسنح له كلما تم تصديقه من قبل هذه الدولة أو تلك، اذ يسارع الى لدغها من الجحر الذي تختبئ فيه عقاربه وافاعيه كما فعل بنظام دمشق الذي صدق، على ما يبدو، ان أنقرة أصبحت تكن له الود، ومستعدة لمواجهة من تعتبره دمشق عدوها الرئيسي في المنطقة دون اي مقابل. بل ان حاكم أنقرة قد تطوع، في بعض الأيام الخوالي، للعب دور الوسيط بين اسرائيل وسورية حول قضية الجولان المحتل، موحيا انه بذلك يخدم مصالح الشعب السوري الاستراتيجية. وما على دمشق إلا ان تضع يدها في يد أنقرة، في مختلف المجالات التجارية والسياسية، لتحقق أمنية العمر في استرجاع الجولان والخروج من دوائر التهميش والمضايقات التي تتعرض لها جراء موقفها من إسرائيل. لكن الذي جرى هو العكس تماماً، ذلك ان الحلف الاستراتيجي بين أنقرة وتل أبيب لا يحتمل عقد تحالفات حقيقية أخرى وخاصة اذا كانت مع دمشق التي ترى اسرائيل انها العقبة الكأداء أمامها لنسج علاقات طبيعية بينها وبين دول الجوار تمكنها من الضمانات الأمنية الضرورية التي تحتاجها، علها تصبح جزءا من بيئة المنطقة بعد ان اعتبرت دائماً رأس حربة الامبرياليات الغربية المختلفة فيها منذ تأسيسها على أرض فلسطين.
واليوم تنبري أنقرة، من جديد، لنسج خيوط خدعة أخرى، حول علاقاتها الحقيقية مع الولايات المتحدة الأمريكية، لعلها تقنع بعض السذج العرب بأن تركيا اردوغان تعيش مرحلة قلب الطاولة في علاقاتها مع واشنطن، بمناسبة الحرب على الارهاب، في كل من العراق وسورية. الم يتحدث اردوغان عن وقاحة الأمريكيين الذين أثقلوا كاهله بمطالبهم اللامتناهية، وهم الذين لم يتخذوا أي قرار مناسب تجاه سورية عندما كان عليهم ان يتحركوا لمواجهة النظام السوري، ويحاولون اليوم التلاعب بمشاعر الرأي العام الدولي بخصوص مدينة كوباني السورية الصغيرة بدعوى انها تتعرض لهجوم تنظيم داعش. ألم يكرر أمام المسؤولين الأمريكيين وآخرهم، ضمن اللائحة الطويلة، نائب الرئيس الأمريكي جو بادين، الذي زار أنقرة، مؤخراً ان محاربة الارهاب تكون حقاً بمحاربة وإسقاط النظام السوري اولا، وقبل كل شيء، وان كل تاكتيك او استراتيجية أخرى لا تجدي نفعا؟ ألم يؤكد، مرارا وتكرارا، ان عدم انشاء منطقة آمنة، أو عازلة، داخل الأراضي السورية ومنطقة حظر جوي لن يكون هناك أمل في الإطاحة بالرئيس بشار الأسد؟ فماذا فعل الأمريكيون غير تنويع مطالبهم وضغوطهم على أنقرة للانضمام الى تحالف محاربة داعش غير المجدي ؟ والأدهى من كل ذلك ان البيت الأبيض الأمريكي قد أوضح انه ليس من الوارد، في الوقت الراهن على الأقل، إقامة منطقة حظر جوي في سورية، كما تلح على ذلك أنقرة، الأمر الذي جر عليه الاتهام من قبل بعض شخصيات المعارضة بأنه حليف الدكتور بشار!!.
وفي الواقع، فإن التفكير في سلوك أنقرة يفيد ان حاكمها يريد دفع الرأي العام المحلي والإقليمي والدولي، الى تركيز التفكير والاهتمام، على تصريحاته النارية تجاه واشنطن وسياستها في المنطقة، وحرف الأنظار عن طبيعة العلاقات الحقيقية التي بينهما في مختلف المجالات السياسية والعسكرية. فهل يعتقد اردوغان ان هذا الرأي العام لا يعرف ان تركيا جزء لا يتجزأ من الحلف الأطلسي، وان قواعده العاملة تقع في تركيا، وتلعب أدوارا أساسية في كل تدخلات الحلف وواشنطن في المنطقة؟
وهل يتوهم حاكم أنقرة ان العالم العربي غافل عن التنسيق القائم بين تركيا والاستخبارات الأمريكية، وأنها تعتبر من المصادر الرئيسية التي تعتمد عليها الولايات المتحدة، الى جانب استخباراتها الخاصة، واسرائيل، في جمع المعلومات حول طبيعة القوات العسكرية السورية وغيرها من القوات العسكرية العربية والإقليمية وتحركاتها وخططها، علاوة على ما تقوم به أنقرة من تسهيل تمرير قوات وجماعات الارهاب المسلح وفي مقدمتها العناصر التي تلتحق بداعش في سوريا والعراق؟
لا يبدو ان هناك من ستنطلي عليه هذه الحيلة التركية، غير المحبوكة جيدا، والتي تفضحها قوة العلاقات الاستراتيجية التي تربط بين أنقرة وإسرائيل وبينها وبين واشنطن والحلف الأطلسي، وهي كلها قوى معادية لكل ما هو قابل للتحول الى عنصر قوة استقلالية، ولو بصورة رمزية، في المنطقة.
هذا لا يعني إنكار وجود أي تباينات في الرأي بين واشنطن وأنقرة، فهذا واقع، لا محالة، بين مختلف الدول، بما في ذلك بين التي تجمعها تحالفات قوية ومصيرية، لكنه يعني ان التضخيم من مثل هذه التباينات لا يسمح بفهم العلاقات بينهما في عمقها التحالفي، ويفتح الأبواب، بالتالي، أمام تأويلات غير واقعية لا تخرج عن نطاق ما جرى في السابق بخصوص العلاقات التركية الإسرائيلية.
ان هذا دعوة الى عدم الانجرار وراء خدعة اردوغانية، أخرى، تضع البعض في غفلة منهم، تحت رحمة أفاعي حاكم أنقرة، الجاهزة للعمل، على حساب مختلف دول المنطقة الإقليمية بما فيها تلك التي قد يغازلها، عند الضرورة، بهذه الطريقة أو تلك.