منذ ثلاث سنين والموت هاجس يومي في سوريا فمن لم تحصده ماكينة قتل النظام سيجد أن موتًا آخر بانتظاره. فهناك الكثير من السوريين، خصوصًا الأطفال حينما يتعرضون إلى أمراض بسيطة يفقدون حياتهم بسرعة، والسبب هو إما لأنهم لا يستطيعون الوصول إلى المستشفيات بسبب القصف الوحشي للنظام، أو لأنهم لا يجدون الدواء الذي يضمد جراحاتهم، سواء كانوا مرضى يعانون من أمراض مزمنة أو جرحى. وفي قصة هذه الطفلة التي سوف نقرأها في السطور القادمة سنقف عند تلك الحرب الصامتة التي تستهدف الأطفال في سوريا قبل غيرهم.
“لم يستغرق الأمر وقتًا طويلاً حتى لفظت الطفلة أنفاسها الأخيرة، ربما بعد نصف ساعة من جلبها من قبل والديها إلى غرفة الطوارئ المؤقتة والمضاءة بواسطة إنارة متواضعة جدًا، كان كل شيء قد انتهى في غضون دقائق قليلة. لقد بذل الطبيب البالغ من العمر 26 عامًا، وهو من سكان المكان ويعيش فيه للسنة الثالثة، جهدًا كبيرًا وعمل بشكل محموم من أجل إنقاذ الجثة الهامدة لكن محاولاته لم تفلح. وبدا على الطبيب الذي لم ينم ليوم كامل، أنه كان مصممًا على إنقاذ حياتها.
لكن في النهاية خسر الطبيب، الذي يشار إليه هنا باسم “حمزة” الذي استخدمه لغرض النشر فقط، خسر المعركة. فبعد بضع دقائق من محاولات الإنعاش لإعادتها للحياة توفيت الطفلة ثم قام الطبيب بلف قطعة قماش ثلاثية الأبعاد حول الجثة الصغيرة تحضيرًا للدفن. وكانت الصدمة قوية على والدتها فقد تراجعت إلى الخلف وتهالكت على الكرسي لأنها لم تستطع حتى الوقوف وهي ترى أمام عينيها ابنتها تتبدد من بين يديها بهذه السرعة، بينما كان والد الطفلة يحث خطاه إلى داخل الغرفة، أخذ يتمتم ويقول: لقد توفيت رغم أننا لم نسمِّها حتى الآن.
لم تمت هذه الطفلة متأثرة بشظية أو رصاصة قناص. لقد توفيت بسبب مرض في الجهاز التنفسي. ووفقًا لجمعية إنقاذ الطفولة الخيرية، فإن غالبية الأطفال في سوريا يعانون من أمراض كالحصبة والإسهال وأمراض الجهاز التنفسي، وجميعها من الأمراض التي يمكن علاجها.
ويقول أحد موظفي الأمم المتحدة: عندما أرى طفلاً ميتًا، أفكر وأسأل نفسي: هل يموتون بسبب الجوع حقًا؟ أو هل أنهم يموتون من بعض الأمراض الرهيبة؟ أو أنهم يموتون من أحد الأمراض التي يمكن علاجها لكنهم لا يستطيعون الحصول على الأدوية الخاصة بها؟.
الميت محظوظ
تشير الإحصائيات إلى أن ستين في المائة من المستشفيات في سوريا إما تضررت أو تم تدميرها؛ ونصف الأطباء قد فروا من البلاد. كما أن الطب تراجع إلى الوراء لعدة قرون. ويعمل الأطباء غير المدربين على المرضى في عيادات منتشرة في واجهات المباني. كما أصبح السعي للحصول على العلاجات العشبية كبيرًا من قبل الذين يعانون من أمراض السرطان المختلفة. ومع ذلك فإن الأمور تزداد سوءًا.
وتفيد التقارير التي تقدمها جمعية إنقاذ الطفولة الخيرية بأن الأطفال حديثي الولادة يموتون في حضانات بسبب انقطاع التيار الكهربائي. وتجري عمليات جراحية لبتر أطراف الأطفال بسبب عدم وجود العلاج المناسب. وتستخدم قضبان معدنية لضرب الناس بدلًا من التخدير.
ورأى الطبيب حمزة أن طفلاً يبلغ من العمر سنتين قد توفي من جراء حساسية للمضادات الحيوية، وذلك ببساطة لأن المستشفى لم يكن فيه جهاز التنفس الصناعي. كما أن الموظفين المحاصرين يتناوبون على العمل في نوبات، لمجرد أن يأخذوا قسطًا من النوم أو لتناول الطعام، وغالبًا ما يكون العمل في مثل هذه الأماكن من دون كهرباء أو تدفئة. ويمكن أن تلاحظ في عيونهم نظرة الناس الذين شهدوا الكثير من المعاناة.
وهنا يكمن السؤال هل يمكن لطفلة عمرها 15 يومًا أن تبقى حية لو تمكن والداها من الوصول بها إلى المستشفى بشكل سريع، أو أن تكون في ذلك المستشفى الأدوية والمعدات المناسبة لعلاجها؟، ويأتي الجواب على لسان الطبيب حمزة الذي يقول:”على الأرجح تبقى حية، لو لم يكن المرض خطيرًا، غير أن والديها لم يكن بمقدورهما الوصول إلى المستشفى بسبب القصف. وما إن حملا جثة الطفلة الصغيرة ليدفناها، قال أحدهما: إنها محظوظة لأنها لن تعيش وتكبر أثناء هذه الحرب.
الذكرى الثالثة
وبينما مرت الذكرى الثالثة لهذه الحرب الكارثية على سوريا الشهر الماضي يحاول الشعب السوري المكلوم عبثًا إحصاء عدد الموتى الذين سقطوا بسبب هذه الحرب.
إن الرقم الذي يستخدم في بعض المحافل يقدر بـ ١٤٠ ألف شخص، في حين أنه قد يكون أكثر من هذا بكثير. ويبدو أن كل شخص في سوريا لديه إنسان فقده في هذه الحرب. كما أن هناك الكثير من الناس لا يستطيعون أن يغادروا سوريا، إما لأن العمر قد تقدم بهم أو لأنهم فقراء جدًا، أو لأنهم لا يجدون طريقًا للخروج بسبب الحصار المفروض على مناطقهم بسبب المعارك الدائرة.
وتقول الجمعية الأمريكية السورية إن هناك ما يزيد على ٢٠٠ ألف قتيل. لكن وفقًا للدكتورة آني سيارو وهي اختصاصية صحة عامة من مستشفى في نيويورك، وتعمل في الأزمة السورية: إن أكثر التقديرات الحالية تقع بحدود (٣٠٠) ألف قتيل وحوالي النصف من هذا الرقم يعانون من أمراض مزمنة وإن عملية علاجهم تكاد تكون متعثرة. وتضيف الدكتورة: إن نقص المعلومات هذا، يعني أن الأمم المتحدة قد تخلت عن حساب عدد الموتى، ناهيك عن إحصاء عدد الأشخاص الذين يعانون من أمراض مزمنة، وبالتالي فإن الأمر صعب جدًا لمعرفة العدد الحقيقي للوفيات.
نقص ودمار
لقد دمرت ثلاث سنوات من الحرب المستشفيات والعيادات ومراكز التأهيل والمختبرات والصيدليات ومستودعات تخزين الأدوية. وبالنسبة للممارسين في المجال الصحي، هذا يعني عدم وجود خدمات طبية. وعلى سبيل المثال، العلاج الكيميائي أصبح لا وجود له في محافظة حلب، على الرغم من أن مستشفى الكندي كان واحدًا من أفضل مستشفيات السرطان في سوريا. وقد أصبح مستشفى الكندي الآن كومة من الأنقاض. وفي محافظة حمص، ذكر ناشط أن غسيل الكلى يكاد يكون مستحيلاً.
وكانت سوريا نموذجًا للأنظمة الطبية في المنطقة وثاني أكبر منتج للأدوية في الشرق الأوسط. ولكن في حين ينبغي أن يكون في حلب حوالي 2،500 من الأطباء الممارسين في هذا الوقت، تفيد منظمة إنقاذ الطفولة بأن هناك 36 طبيبًا. وهناك عدد قليل من الخيارات للمرضى الميؤوس من شفائهم.
أما مرضى السرطان فيجب أن يذهبوا إلى العاصمة دمشق أو تركيا للعلاج، إذا كانوا يستطيعون أن يدفعوا مالاً مقابل ذلك، أو أنهم سيموتون في بيوتهم. كما لا توجد مختبرات لمراقبة عدد خلايا الدم البيضاء الخاصة بهم. ويقول الدكتور حمزة: في بعض الأحيان كل ما يمكن أن نعطيه لهم هو المسكنات، إنهم يعانون بصورة رهيبة.
وتواصل بعض المنظمات الطبية العمل ولكنها دفعت ثمنًا باهظًا مقابل ذلك، حيث قتل الكثير من أعضائها منذ بدء الصراع وحتى الآن.
ميكانيكي طبيب
ويقول الدكتور ديفيد نوت، وهو جراح بريطاني أخذ إجازة غير مدفوعة الأجر من المستشفى الذي كان يعمل به ليأخذ على عاتقه العمل في سوريا مع منظمة أطباء بلا حدود واللجنة الدولية للصليب الأحمر في شمال سوريا، يقول: لقد أخذ الأطباء المحليون الذين لا يمتلكون أي مؤهل جامعي أو شهادة درجة بإنشاء عيادات لهم، وهؤلاء الناس غير مدربين لكنهم يعملون كأطباء ليحققوا مكاسب مادية.
وقد سمع هذا الدكتور عن أن شخصًا يعمل ميكانيكي سيارات قد تحول إلى جراح. ويضيف الدكتور ديفيد نوت: هذا الشخص تحول إلى جراح لاعتقاده بما أنه يمتلك القدرة على إصلاح السيارات سوف يتمكن من إصلاح الناس.
وفي الوقت الذي يقضي فيه الدكتور نوت معظم وقته في علاج الضحايا الذين تستهدفهم براميل القنابل التي تسقطها طائرات الهليكوبتر التابعة لقوات الرئيس بشار الأسد لإلحاق أكبر ضرر ممكن بالتجمعات البشرية، ذكر نوت بأنه ليس هناك ما يمكن أن تفعله لضحايا الأمراض المزمنة.
ويضيف: الناس الذين يعانون من مرض السرطان والسكري وارتفاع ضغط الدم يعيشون في ورطة، وفي الحقيقة أنهم يموتون في بيوتهم فقط.
إن أمراضًا أخرى، مثل مرض السكري، من المستحيل الحصول على علاج لها أيضًا، فعلى سبيل المثال، الأنسولين يحتاج إلى تبريد، ولكن في كثير من الأحيان يعيش الأشخاص الذين يعانون من السكر بدون كهرباء لعدة أيام، وبالتالي فإن الأدوية تتعرض إلى التلف. ويضيف الدكتور نوت: وبسبب ذلك، تصبح لدى الناس الذين يعانون من أمراض مزمنة أعراض متقدمة من المرض، كأن تكون الغرغرينا التي تصيب مرضى السكري عادة.
حليب الجمال
وحتى لو كانت الأدوية متاحة، فهناك ما لا يسمح بالحصول عليها، حيث يقول الدكتور حمزة: عادة ما تكون الأدوية غالية الثمن. لقد كانت تكلفة الأدوية في المستشفى الميداني الذي يعمل فيه في حلب لعلاج ألف وخمسمائة من المرضى الذين يعانون من السكري من النوع 1 منذ ما يقرب من ثلاثة أشهر عشرة آلاف دولار. ويضيف كان هذا لنوع واحد فقط من مرض السكري، حيث إننا لا نتحدث حتى عن أشكال أخرى أو ارتفاع ضغط الدم أو أمراض القلب.
لقد أصبح الوضع سيئًا للغاية، بحيث إن ناشطين بالقرب من حماة يفيدون أن مرضى السرطان غير قادرين على تلقي العلاج الكيميائي أو الإشعاع، ويتم اللجوء إلى حليب الجمال والفاكهة الاستوائية لاستخدامها كطب بديل. ولكن حليب الإبل نادر جدًا وتكلفته تصل إلى 7 دولارات للكيلو الواحد. ويمكن القول إن امتلاك حليب الجمال في هذه الأيام يعد ثروة في سوريا.
وتقول جولييت توما من اليونيسيف: إنها الحرب الصامتة ضد الأطفال الذين يعانون من أمراض مزمنة ولا يستطيعون الحصول على العلاج في سوريا، إن الأطفال هناك عرضة للموت بنسبة كبيرة جدًا دون أن يلاحظ أحد، وتكمن المشكلة أن هناك حوالي مليون طفل يعيشون في أماكن تحت الحصار، وفي أماكن يصعب الوصول إليها، ونحن لا نستطيع الوصول إليهم على أساس منتظم.
نقلا عن مجلة نيوزويك الأمريكية