مع الثورة السورية، كنا أمام نماذج عدّة من المثقفين/السياسيين السوريين: الشعبوي، مثقف البلاط، الحيادي، الانتهازي، الأيديولوجي، الطائفي، الثوري، العقلاني، الثوري العقلاني.. إلخ. واللافت أن مواقف هؤلاء، جميعاً، تحدّدت منذ اليوم الأول للثورة، ولم تطرأ أي تعديلات جوهرية على خطابهم وتصوراتهم ومواقفهم، خلال السنوات الأربع الماضية، على الرغم من زخم الحوادث والمسارات المتعرجة للواقع وتغيراته المتنوعة.
لكن، في الحقيقة، كنا أمام نموذجين فاقعين وطاغيين، عموماً، للشخصيات العاملة في المستويين، الثقافي والسياسي، وهذان النموذجان حدّدا، أيضاً، مسارات المعارضة السورية، واصطفافاتها المختلفة. وعلى الرغم من أن الصفات المدرجة لا تتوفر، بالتأكيد، كاملة في أي من الشخصيتين الفاقعتين، وأن الواقع يحتوي تنوعاً كبيراً بينهما، وكذلك مع إدراكنا استبدادية فعل التصنيف نفسه، بما يتضمنه من تبسيط أحياناً، وما يضمره من خطر وضع البشر في قوالب نمطية غير مطابقة، تماماً للحقيقة، إلا أننا نعرض هذين النموذجين من الشخصيات المثقفة والسياسية، في صورة الحد الأقصى، طمعاً باستفزاز تفكيرنا من جهة، وبهدف تجاوزهما واقعيّاً من جهة ثانية.
الشخصية الأولى: تقيم غالباً خارج سورية، تفتقد، في الغالب الأعم، إلى تاريخ نضالي، لديها انحياز أعمى للثورة، بما يجعلها تتنكر للأخطاء وتتستر عليها. المحرك الأساسي لتوجهاتها وخطابها هو الحقد القديم إزاء نظام الحكم في سورية، مشكلتها الأساسية مع النظام، وليس مع نهج الحكم، مغرمة بالصوت العالي، وتتوفر على حد أقصى من “المزاودة” على الآخرين، شعبوية وغرائزية في أدائها، وشعبويتها ناتجة من الجهل، أو الانتهازية التي تدفعها نحو السعي “الرخيص” للحصول على الحظوة بين الناس، فهاجسها الأساسي محاولة كسب الشارع بأي طريقة كانت، تشيع في خطابها كثيراً مقولات الخذلان والدم، ضحالة في المعرفة السياسية، بما يجعلها أقرب إلى “البلاهة السياسية”، غير عارفة بسورية والسوريين وطبيعة نظام الحكم، معظم وعيها يُبنى استناداً إلى الشائعات والكلام الشفوي أو المنقول.
تعتمد لغة سياسية غوغائية، زوادتها الأساسية المبالغة الخالية من أي معانٍ سياسية حقيقية، مقاربتها السياسية للحوادث مبنية على أساس طفولي، لا يرى إلا الحدود القصوى للظواهر. لذلك، تستند خياراتها إلى قانون “الكل أو لا شيء”، منهج عملها هو “السبحانية” و”الدروشة”، ولا تتقن التخطيط والمراكمة، تسيطر عليها خفة طاغية إزاء الإعلام، جهل مريع في العلاقات السياسية الخارجية وموقع سورية فيها، داعشية الهوى والنهج، حتى لو كانت “علمانية”، وفي حال كانت من الشخصيات التي اعتقلت، سابقاً، فإنها تطمح إلى الحصول على أجرتها وتعويضاتها من الثورة على شاكلة الفوز بمنصب سياسي، أو مال، عاشقة للسلطة، وقد اندفعت نحو اللهاث وراء المواقع، وتصدّر المشهد السياسي، بحكم كونها قصيرة النفس وغير واثقة بنفسها، تتوفر على براغماتية مغالية وفاقعة، إذ لا تتوانى عن اللعب والمساومة بأي شيء، في سبيل المكاسب الشخصية، ساهمت، بخطابها وأدائها، بقدر ما في تغيير طبيعة الحراك الشعبي، وخفض صفته الوطنية، تعطي انطباعاً بأنها غريبة عن سورية، ولا تشبه السوريين، مندرجة في سياسات سعودية قطرية تركية، في أغلب الأحوال. إيران مختزلة بالفرس والمجوس والشيعة، وأخيراً هي لا تعرف الخجل أو التواضع، ولا تعترف بعجزها وقصورها وعدم كفاءتها، على الرغم من فشلها الواضح والمتكرر، ولا تتقن ولا تقبل الرجوع خطوة إلى الوراء، في سبيل مراجعة الذات.
” الشخصيتان معاقتان ومعيقتان، في الوقت نفسه، ولا تنتجان واقعيّاً سوى الهذر والكوارث
”
الشخصية الثانية: تقيم غالباً داخل سورية، تفكيرها “الأقلوي” يجعلها “علمانية” في الظاهر، وطائفية في الجوهر، في العمق هي ضد الثورة، ربما لأن الثائرين لم يأخذوا رأيها، أو يعترفوا بقيادتها، تحليلاتها تقوم على أساس أن كل ما يفعله النظام “طبيعي”، ويفترض في الثورة أن تكون مثاليةً في مواجهته، في رأسها أوهام قديمة، ما زالت مستمرة حول حزب الله وإيران. في العمق، لا مشكلة جوهرية لها مع النظام القائم، لأسباب طائفية أو أيديولوجية (ممانعة، مقاومة، قومية عربية…)، والنقطة الرئيسية التي تطرحها، علناً أو ضمناً، هي “كسر احتكار السلطة”، أي المشاركة في النظام، رائحة الأيديولوجية والأوهام النضالية تزكم الأنفاس، مقولات العمالة والاتهام تملأ رأسها، وتتعيش عليها، حالة متفشية من التعالي واحتقار الناس، ليس من النادر أن تتفاخر عليهم باعتقال النظام لها في الزمن الغابر: “أين كنتم أيها الحثالات عندما كنا نناضل”.
الهامشية المزمنة تدفعها إلى سلوك تعويضي، يتمثل في نشر كتاباتها السابقة، لتقول للناس بشكل غير مباشر “أنا أفهم منكم”، أو “ألم أقل لكم”، أو إلى ممارسة “تفكير الجكارة”، بالسير عكس البديهي والمعروف أو الواضح، خطابها صادم للمزاج الشعبي، وهذا يعطيها شيئاً من النشوة والانتصار، إضافة إلى كونه خطاباً موتوراً وعصابيّاً، فأي نقد للخطاب يحولها من داعية سلمية إلى داعشية أو تشبيحية الخطاب، حس السخرية والشماتة مسيطران، وتتمنى فعليّاً خسارة الثورة، ويرتفع صوتها في كل لحظةٍ، يظهر فيها أن الثورة تخسر، سريعة في اتهام الثورة، ومترددة، وتحسب كلماتها بدقة تجاه النظام، تتظاهر بالحكمة، وهي، في جوهرها، جبن أو خوف من الخسارة الشخصية، افترضت الهزيمة سلفاً أمام النظام القائم. لغتها السياسية أقرب إلى لغة جمعية حقوق إنسان في سويسرا، أو إلى لغة كائنات تعيش في سنغافورة أو جزر القمر، تشعرك أنك أمام كائنات أيديولوجية، أو ديناصورات قومية أو ستالينية، مغرمة بالشعارات، وتعتقد، في العمق، أنه بمجرد قولها تتحول إلى واقع، منابرها الإعلامية هي منابر النظام ذاتها، نشاطها البسيط والهامشي ينحصر كله في مناطق سيطرة النظام، معظم جهدها ينصب على البيانات السياسية، أخلاقياتها تطهرية في الظاهر، لكن مصدرها وقاعها أيديولوجي محنط. وفي العمق، لا تتوفر على المبدئية والصدقية، مندرجة، بشكل مباشر أو غير مباشر، في سياسات إيرانية روسية، تركيا بالنسبة لها هي الدولة العثمانية، وتعاني من “عقدة خليجية”، جوهرها أوهامها عن نفسها والآخر، وشعورها المزعوم بالتفوق الحضاري على البدو.
أخيراً، لا شك أن هاتين الشخصيتين معاقتان ومعيقتان، في الوقت نفسه، ولا تنتجان واقعيّاً سوى الهذر والكوارث. في اعتقادي إن سورية تستحق، على الرغم من البيئة القاسية على الصعد كافة، والدم الضاغط على رؤوسنا وأرواحنا، أن يذهب جميعنا، المحسوبون بشكل أو آخر على ساحة الثقافة والسياسة، في طريق التفكّر في أنفسنا، وإعادة النظر في موروثاتنا الفكرية والسياسية والنفسية، ووضع بديهياتنا ومقولاتنا موضع نقاش وتقويم جديين، علّنا ننجح في معركة بناء أرواحنا وعقولنا من جديد، أو إفساح الطريق لكائنات سياسية وثقافية جديدة: مبدئية وواضحة، عارفة وعاقلة، في الآن نفسه.