التمديد للمفاوضات النووية هو تمديد لأزمات المنطقة أيضاً. المفاوضون حرصوا باستمرار على تأكيد الفصل بين برنامج إيران وهذه الأزمات. لكن الأحداث في المنطقة كانت ولا تزال تشي بخلاف ذلك. تبدو الخطوات هنا وهناك مترابطة تسير في خطين متوازيين لا يتقدم أحدهما على الآخر. كل شيء مؤجل أو معلق بانتظار الاتفاق بين الجمهورية الإسلامية والدول الخمس الكبرى والمانيا، خصوصاً بينها وبين الولايات المتحدة. لذلك لن ترى أفكار المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا النور قريباً. تجميد القتال في حلب أوغيرها سيظل مجال أخذ ورد وسط اقتناع شبه تام بأنه عصي على التطبيق. والأفكار الروسية لن يكون مصيرها أفضل. فالسعي إلى إحياء عملية جنيف أو الانتقال بالعملية السياسية إلى موسكو لم تلق حتى الآن قبولاً لدى دمشق… فكيف بالمقاتلين في الداخل. أما الغارت الجوية على «الدولة الإسلامية»، خصوصاً في سورية فلم تحقق هي الأخرى شيئاً يذكر على الأرض. وسيظل موقف تركيا على حاله من التحالف الدولي – العربي. وحتى دعوة الرئيس باراك أوباما أعضاء إدارته إلى إعادة النظر في خياراته السورية جاءت حدثاً عابراً… إلى حين.
لا شيء تغير ولا يبدو أن سياسة الرئيس أوباما ستتغير حيال الحرب القائمة على الإرهاب أو حيال مستقبل النظام في سورية. وإلا لما كان وزير دفاعه تشاك هيغل استقال أو أقيل، لا فرق. لذا لا يستبعد أن تراوح حملة التحالف الدولي – العربي على «داعش» و»جبهة النصرة» مكانها إن لم تفشل حالها حال الحرب الطويلة على الإرهاب من أيام الرئيس بوش الإبن. وستبقى العملية السياسية في بغداد تسير ببطء في مواجهة عقبات وصعوبات لا تقل عما يواجه الاتفاق النووي. كل هذه التحركات السياسية منها والعسكرية تبدو كأنها لعب في الوقت الضائع. أو سعي إلى تحسين المواقع بانتظار ما ستستفر عنه المفاوضات في الملف النووي وما سيتركه من تداعيات على المنطقة وفي الداخل الأميركي والإيراني أيضاً. مرحلة ما بعد الاتفاق، إذا أبرم في الشهور المقبلة، لن تقل صعوبة عما بعدها. الجمهوريون إذا لم يطمئنوا إلى طي صفحة البرنامج النووي الإيراني نهائيا يملكون من أدوات الضغط والقدرة على مزيد من العقوبات ما يسمح لخصوم الرئيس حسن روحاني المتشددين بإطاحة الاتفاق والتنصل من أي التزامات. وهم بدأوا بمساءلة وزير الخارجية جواد ظريف. أما فشل المفاوضات نهائياً بعد سبعة أشهر فسيصب مزيداً من النار على الأزمات المشتعلة في الإقليم كله إذا لم يتجاوز المتصارعون قواعد اللعبة إلى حرب واسعة ومفتوحة.
ليس سراً أن الإدارة الأميركية تركز على اولويتين لا ثالث لهما في هذه المرحلة: التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، ومحاولة احتواء «دولة الخلافة» في العراق ومنع تمددها تمهيداً للقضاء عليها إذا أمكن. تريد الحفاظ على مصالحها في هذا البلد النفطي، وتحرص تالياً على عدم اندلاع حرب مذهبية تدفع الجمهورية الإسلامية إلى كل ساحات نفوذها في المنطقة فتقع المواجهة الإقليمية الكبرى المحظورة. وبات واضحاً أن خطواتها في هذين الميدانين مترابطة باحكام. وهو ما يعطي الانطباع بأن حملة التحالف على «داعش» لم تحقق حتى الآن نجاحات كبيرة. وقبل أيام نشرت «واشنطن بوست» مقارنة ذات دلالة: شنت القوات الأميركية في أفغانستان خلال 75 يوماً (من 7 اكتوبر إلى 23 ديسمبر 2001) 6500 غارة وأسقطت 17500 قذيفة. وشنت في العراق وسورية خلال 76 يوماً (من 8 أغسطس إلى 23 اكتوبر الماضيين) 632 غارة وأسقطت 1700 قذيفة!
الأرقام وحدها تشرح. المقارنة تشي بوضوح لماذا لا تزال قوات «داعش» في كوباني على رغم الحملة الجوية لتحالف عريض منذ نحو شهرين. لئلا نتحدث عن سير المعارك في العراق، وكم ستطول معركة تحرير الموصل مثلاً. حتى الآن عاد الأميركيون إلى بغداد. فرضوا إزاحة نوري المالكي. وهم لا يزالون يمارسون دورهم في إعادة إحياء العملية السياسية، وإعادة تصحيح هياكل النظام وإشراك كل المكونات السياسية والطائفية، بما يخفف من ثقل اليد الإيرانية. ويهدىء من مخاوف دول الجوار التي تعترض على طغيان هذه اليد في عدد من العواصم العربية. ولم يكن سراً أن الحرب الأميركية على «داعش» تأخرت بانتظار رحيل زعيم «دولة القانون» وقيام حكومة جامعة. لذا يبدو أن رفع وتيرة الحملة على «دولة الخلافة» رهن بتقدم العملية السياسية في بغداد، ومدى استجابتها مطالب العشائر وأهل السنة عموماً. ولم تجد طهران مفراً من التعاون والتفاهم مع واشنطن لمواجهة «الدولة الإسلامية». لكنها في المقابل أطلقت يد الميليشيات الشيعية الموالية لعلها «تستعيد» ما خسرته أمام تقدم «داعش». وتنظر بحذر إلى إعادة ربط الخيوط بين بغداد وعواصم الجوار.
وليس سراً أيضاً أن الإدارة الأميركية لا تضع في رأس أولوياتها إطاحة الرئيس بشار الأسد في هذه المرحلة. تحييد الغارات الجوية للتحالف قواته النظامية ليس مرده الخوف من ردة فعل إيران والميليشيات الشيعية في العراق فحسب. فقد لا يطول الوقت الذي ستجد طهران نفسها مرغمة على اعتماد «النموذج» العراقي في سورية. أي البحث عن بديل من الرئيس الأسد من أجل الحفاظ على ما يبقى من النظام من أجل الحفاظ على مصالحها في هذا البلد. والغرب ليس بعيداً عن حل كهذا بل يسعى إليه منذ اندلاع الأزمة قبل أربع سنوات. لذلك لم ير ضيراً في الأفكار التي يطرحها المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا فهي تعفيه من الضغوط من أجل تفعيل حملته على «داعش» والسعي إلى ترحيل الأسد معاً. الكل يعرف أن هذه الأفكار لا ترقى إلى طرح حلول جذرية. بل إن الحقائق على الأرض لا توفر عناصر النجاح حتى لحلول جزئية.
إن تجميد القتال في حلب مثلاً، كما يقترح دي ميستورا، يبدو مستحيلاً ما لم يسبقه تعديل ميزان القوى في شمال البلاد لمصلحة «الجيش الحر» والفصائل المعتدلة. غير ذلك يعني منح قوات النظام فرصة لحسم المعركة في هذه المنطقة لمصلحته. ذلك أن حضوره هناك لا يزال فاعلاً. وهو يقتسم المدينة مع أطياف المعارضة. ولا ينسى الذين عملوا على فك الحصار عن مناطق في حمص وغيرها عبر اتفاقات لوقف النار أن النظام حول هذه الاتفاقات استسلاماً لخصومه الذين لم يكن أمامهم مفر من الرضوخ أمام معاناة المدنيين المحاصرين والمهددين بالموت قتلاً أو جوعاً. إلى ذلك سيجد البمعوث الدولي نفسه أمام حتمية التفاوض مع الفصائل المتشددة من «النصرة» إلى «أنصار الدين» و»أحرار الشام» التي طاولتها غارات التحالف ولوائح الإرهاب! ولن تكون هذه وحدها عائقاً أمام أي اتفاق مع النظام، إذ لا يمكن أي قوة سياسية في الداخل أو الخارج، كالائتلاف مثلاً، أن تنوب في هذا المجال عن قوى الداخل التي تصارع النظام.
من مصلحة النظام أن يرحب بأفكار المبعوث الدولي، أو على الأقل بشقها الخاص بتجميد القتال. سيعزز مواقعه، ويركز على ضرب الفصائل المعارضة. وهذا ما يفعله اليوم. أما الخصوم المتشددون فيتكفل بهم التحالف الدولي – العربي. وهذا ما يفاقم شعور شرائح واسعة من الفصائل العسكرية المعارضة بأن الغارات الجوية للتحالف على «داعش» و»النصرة» تعزز مواقع دمشق التي أفادت من تحييد النظام ومواقعه في ضوء التفاهم الأميركي – الإيراني. وهذا ما يجعل قوى كثيرة على الأرض تبدي على الأقل تعاطفاً مع «النصرة» التي كانت ساهمت في مواجهة «الدولة الإسلامية» في ريف حلب ونسقت في معارك كثيرة مع «الجيش الحر». والآمال ضئيلة بأن تثمر الخطة الأميركية لتدريب عناصر من هذا الجيش وتسليحها. فالوقت الذي تستغرقه هذه الخطة يتيح للنظام أن يوجه ضربات قاصمة إلى مواقع المعتدلين. فضلاً عن القوى الإسلامية التي باتت تنازعهم حضورهم في كثير من المواقع، خصوصاً في شمال البلاد.
لكن ما قد تعده دمشق وطهران مكاسب في المرحلة الآنية سيتحول تحدياً كبيراً. إن غياب أي خطة أميركية لتوجيه ضربات قاصمة إلى «داعش» في سورية، وترك النظام يجهز على ما بقي من فصائل معتدلة تقاتل على جبهتين، سيفضيان إلى تعزيز مواقع الإرهابيين والجهاديين والمتشددين. وسيشكل هذا أكبر خطر على النظام في دمشق الذي سيجد نفسه أمام خطر غير مسبوق، كما حصل في العراق تماماً. وهذا ما قد يدفع إيران إلى البحث عن مخرج. وقد لا تجد مهرباً من اعتماد النموذج العراقي. أي فتح صفحة البحث في مصير الأسد، انقاذاً لما يبقى من النظام ولمصالحها في سورية، وتخفيفاً لأعباء تثقل اقتصادها، وحرصاً على مواصلة الحرب على القوى المتشددة التي تهدد حضورها ودورها في الإقليم.
وبقدر ما تبدي إيران ارتياحاً حتى الآن إلى حوارها مع أميركا وإلى نتائج الحملة الدولية على «الدولة الإسلامية»، تبدو موسكو في مزاج آخر. تدرك أنها ستكون الضحية الأولى لأي اتفاق نووي قد يمهد لعودة الجمهورية الإسلامية إلى موقعها القديم في الخريطة الغربية باباً إلى المياه الدافئة. وتنظر ربما بعين الحسد إلى تمدد هذه الجمهورية في الإقليم ما يعطيها أرجحية في أزماته وملفاته، هي الغائبة عن معظمها. وتخشى تطور مهمات التحالف إلى إسقاط الأسد وتقويض مصالحها في سورية. وهذا ما دفعها إلى إحياء اتصالاتها لعلها تعيد بعث دورها عبر بعث التسوية السياسية في جنيف أو موسكو. ولعلها تحد من خسائرها. لكنها لم تلق تجاوباً من النظام وتعرف سلفاً الموقف الواضح للمعارضة الحقيقية وليست الوهمية التي تريد أيضاً بعثها. وليست روسيا وحدها في هذا المركب. تركيا هي الأخرى يقلقها أي تفاهم بين إيران والغرب مثلما يقلقها الغموض والالتباس المرافقين لحملة التحالف. ولا يمكن أن تستكين وتكتفي بالمراقبة. إنها على الحدود المباشرة لسورية والعراق معاً. من هنا حملة الرئيس رجب طيب أردوغان على السياسة الأميركية وإصراره على وجوب إسقاط نظام الأسد.
إن أي تغيير جذري في سياسة اللاعبين في الإقليم سيظل رهناً بمستقبل المفاوضات النووية الممدة، سواء نجحت أوفشلت. وكل الأفكار تظل مؤجلة: أفكار دي ميستورا لانقاذ حلب، وأفكار موسكو لبعث العملية السياسية في سورية، ومطالب تركيا لوضع مصير نظام الأسد على لائحة أهداف التحالف. والحرب على «داعش» ستحافظ على الوتيرة التي تشهدها كوباني. لذا ستطول هذه الحرب ويطول معها انتظار المنتظرين ربما… إلى أن يقضي أوباما ما بقي عليه في البيت الأبيض!