كان ذلك في بداية السبعينات من القرن الماضي ، عندما التقيته للمرة الأولى . كنت انشر مقالاتي في المجلات والصحف البغدادية وفي مقدمتها جريدة ” التآخي ” التي كانت تشغل بناية صغيرة قديمة من عدة طوابق في منطقة السنك في شارع الرشيد ببغداد (بناية مطبعة التايمس، حيث تطبع الجريدة ).لم يكن في البنابة مصعد كهربائي وفي كل مرة كان على ان اصعد سلما ملتويا للوصول الى غرف الأدارة والتحرير . في اول زيارة لي توجهت الى غرفة التحرير وانا احمل معي مقالا طويلا عن كتاب ” اربيل في أدوارها التأريخية ” للمؤرخ الراحل زبير بلال اسماعيل ( 1938 – 1998 ) الذي كان قد صدر للتو ( 1971 ) في النجف الأشرف وأثار سجالا حارا على صفحات ” التآخي ” وبعض الصحف الأخرى . كانت الغرفة واسعة ولكنها متواضعة الأثاث ،. ولم أكن أعرف أيا من الجالسين وراء مناضد حديدية صغيرة ، وتبين انهم كل من ( فلك الدين كاكائي ، ومحمد الملا كريم ، بدرخان السندي ) . ولا أدري لماذا توثقت العلاقة مع كاكائي دون الآخرين . ربما لأنه كان بشوشا يستقبلك بوجه باسم ويحاورك بصوت هاديء وخفيض . قدمت له المقال ، فقرأه بتمعن و تركيز ، ثم قال سننشره في القريب العاجل .وفي زيارتي التالية ، قدم لي نسخة من روايته البكر” بطاقة يانصيب ” الصادرة في بغداد العام 1967 باللغة العربية مع اهداء لطيف .
كان حزب البعث الحاكم قد تنكر عمليا لنص وروح اتفاقية آذار 1970 وكان الوضع السياسي يزداد توترا كلما اقترب نهاية السنوات الأربع التي كان من المفترض ان يتم تنفيذ بنود اتفاقية آذار خلالها ، وخلال الأشهر الأخيرة المتبقية من عمر الأتفاقية كانت جريدة ” التآخي ” قد انتقلت الى بناية في شارع السعدون و تخوض نضالا اعلامياً ، لا يقل اهمية عن اشكال النضال الأخرى وبضمنها الكفاح المسلح. وكان المقال الأفتتاحي للجريدة هو المعبر الحقيقي ليس عن موقف الحركة التحررية الكردية فقط بل عن الوضع العام في البلد .وكانت ” التآخي ” الجريدة المعارضة الوحيدة في العراق في تلك الفترة واوسعها انتشارا.
وفي تلك الظروف العصيبة واظب كاكائي على كتابة عموده الصحفي قي الصفحة الأخيرة من الجريدة بتوقيع ( أ. برشنك ) وكان في غاية الجرأة ، يلتقط فيه حقائق عن زيف ادعاءات البعث وعدم جديته في تنفيذ الأتفاقية وتصميم الشعب الكردي على نيل حقوقه مهما بلغت التضحيات .
بعد انتفاضة آذار المجيدة العام 1991 ، لعب كاكائي دوراً محوريا في المشهد الثقافي الكردستاني ، ورغم أنه كان قيادياً في الحزب الديمقراطي الكردستاني ، الا أنه كان مثقفا موسوعيا من طراز فريد ، واستطاع في عمله التوفيق بين مجالين على طرفي نقيض هما ( السياسة والثقافة ) ونجح في الحفاظ على شخصيته الثقافية والفكرية المتميزة وهو امر في غاية الصعوبة ونادر الحدوث ,. وكان دائما يتحدث كمثقف ولا تشعر انه قيادي حزبي . حتى عندما استلم مسؤولية وزارة الثقافة والشباب .
ثمة عادة لا استسيغها في اقليم كردستان وهي زيارة الوزير الجديد وتقديم باقات الزهور اليه . فترى عددا كبيرا من معارف الوزير وأصدقائه وممثلي احزاب و منظمات ، محشورين فى غرفة السكرتارية ، ينتظرون دورهم في الدخول الى الوزير لتهنئته بمنصبه الجديد . هذه الزيارات لا تنقطع لمدة شهر او أكثر، أي انهم لا يدعون الوزير يمارس مهامه كل هذه المدة . كنت اتحرج من حشر نفسي بين هذه الجموع وان كنت اعرف كاكائي عن قرب ، ربما أفضل من الباقين .لذا لم ازره الا بعد عدة أسابيع من استيزاره وذكرني الراحل بايام االتآخي ” في بغداد .
. وخلال زياراتي المتقطعة له لم نكن نتحدث عن السياسة قط ، بل كان يحدثني عما يشغل فكره في تلك الأيام . اذكر انه تحدث طويلا ذات مرة عن ” العولمة ” وانه شديد الأهتمام بهذا الموضوع لأهميته البالغة . وكان يتابع كل ما يستجد على الساحة الثقافية في المنطقة والتيارات الفكرية في الغرب .
في يوم الجمعة 5/4/2002 احتقل العاملون في جريدة ” خه بات ” في فندق ” جوار جرا ” بالذكرى الثالثة والأربعين لصدور جريدتهم بصورة علنية لأول مرة ، حيث صدر عددها الأول في بغداد يوم 4 نيسان 1959 وكنت من ضمن المدعويين الى الحفلة وتصادف جلوسنا على ماائدة واحدة ، ووجدت نفسي وجها لوجه امام كاكايي وكان بين الحضور الصحفي الصديق الراحل طارق ايراهيم شريف و الدكتورة خيال الجواهري ( كريمة الشاعر الكبير الراحل محمد مهدي الجواهري ) وقرينها الأعلامي والمسرحي صباح المندلاوي .ودهشت عندما رأيت كاكايي يتحدث عن الموسيقى العربية والعراقية وابرز نجومها في الماضي والحاضر ، وكان شديد الأعجاب بعازف العود ” نصير شمه ” و تطرق الحديث الى انجازات الأخير الموسيقية ونشاطه الدائب للتعريف بالموسيقى العراقية .
خلال الأيام الأخيرة نشر العديد من المقالات في وسائل الأعلام العربية والعراقية والكردية عن الفقيد والتي تتحدث عن الطابع الفريد لكتاباته ، الذي يتجلى قي المزج بين الماركسية والقومية والصوفية وهو أمر تطرق اليه الفقيد نفسه في مقابلاته الصحفية ، ولكن لم ينتبه أحد الى المقالات الأفتتاحية لجريدة ” خه بات ” الأسبوعية الصادرة في اربيل باللغة العربية والتى كان الفقيد يتولى رئاسة تحريرها حتى العام 2001 . كانت معظم تلك الأفتتاحيات تعالج القضايا الآنية الملحة للمجتمع الكردستاني ، فعلى سبيل المثال لا الحصر كتب الفقيد مقالين افتتاحيين تحت عنوان ” التكنولوجيا في خدمة كردستان ” في العددين 910 ، 911 الصادرين في 5 ، 12 /2 /1999 على التوالي . وربما كانت هذه هي المرة الأولي في تأريخ الصحافة الكردستانية التي يجري فيها الحديث على نحو جاد عن هذا الموضوع المهم. كما كرس الفقيد عدة افتتاحيات لظاهرة استغلال الوظائف العامة للمنافع الشخصية و ضرورة ابتعاد المسؤولين عن ممارسة النشاط التجاري .
كان للفقيد حضور ثقافي دائم ويحرص على حضور الندوات والمحاضرات الثقافية والأسهام فيها بمداخلات قيمة ..
رأيت كاكايي للمرة الأخيرة في الندوة التي اقامها اتحاد الأدباء الكرد في اربيل قبل عدة اسابيع للدكتورة شكرية رسول ، حول ” التراث الشعبي الكردي” . وتحدث كاكائي في هذه الندوة حول موضوع في غاية الأهمية وهو توثيق التعاون والتكامل الثقافي بين اجزاء كردستان الكبرى .
كرس الفقيد اجمل سنوات عمره للنضال في صفوف الحركة التحررية الكردية ، بالبندقية والقلم في آن واحد ، ولم تكن الوظيفة بالنسبة اليه الا وسيلة لخدمة شعبه .وكان يحلم بالتفرغ لأعماله الفكرية وقد تحقق ذلك في السنوات الأخيرة . ويبدو ان هذا التفرغ كان مثمرا للغاية ، حيث صرح مرارا انه انجز عدة مؤلفات جديدة وهي جاهزة للطبع . والمهم الآن هو جمع تراث الفقيد واعادة طبعه والحفاظ على أرشيفه الثري واعداد مخطوطاته للطبع تحت اشراف لجنة علمية متخصصة عالية المستوي ، كما هو متبع في الدول المتقدمة .