حل الربيع مبكرا على جبل الأكراد فتلونت الأرض باللون الوردي لبراعم شجر الكرز المتفتح على سفوح الجبال، وعادت الزرقة الخافتة لسماء المنطقة بعد أن كانت متلبدة بغيوم العاصفة.
لكن سكان المنطقة يصلون لله ويتضرعون ألاّ تكون السماء صافية وأن تعود السحب من جديد علها تحميهم من الطائرات التي يسمع أزيزها بشكل يومي وهي تبحث عن منزل لم يدمر أو عن بشر يتحرك حوله.
على جانبي الطرق الجبلية، توجد مساحات من الأشجار المتفحمة نتيجة حرق القوات الحكومية للأحراش في إطار جهودها لطرد المقاتلين المختبئين في الغابات. هذا ولا تزال ريح عواصف المعارك تهب عبر الجبال ويحدث مرورها من خلال الدبابات المحترقة صفيرا يتردد صداه في القرى الخاوية على عروشها.
تلقى في جبل الأكراد الممتد على طول الحدود السورية التركية من اللاذقية وحتى إدلب قرى مسلمة ومسيحية كانت في بداية الثورة ملجأ لآلاف النازحين من العمليات القتالية في بقية المدن السورية لكنها ما لبثت أن أصحبت هي الخط الأمامي للقتال.
وفي القرى المسيحية المحيطة بجسر الشغور (إدلب)، تعرضت الكنائس لأشد العمليات القتالية قسوة، ذاك أن موقع دور العبادة المشادة على قمم التلال جعلها مغانم وأهدافا للجيش السوري الحر والقوات الحكومية على حد سواء. لا تزال أعلام النظام البعثي وأكياس الرمل متناثرة في جميع أنحاء الفناء القديم لكنيسة القديسة آنا، التي تعد أقدم كنيسة أرمينية في سوريا، لكن القوات الحكومية جعلتها قاعدة للقناصة قبل أن تنسحب منذ نحو شهر.
وفي القمة التالية، التي لا تبعد سوى ألفي متر، هناك كنيسة أخرى انفجرت جميع نوافذها وباتت مهجورة تماما. وتصف إلهام، وهي سيدة تقطن المبنى المجاور للكنسية، المعركة بالقول: «لم نكن خائفين، وكنا ننتظر الموت. لقد أطلق الجيش (الحر) الرصاص والصواريخ على الكنيسة وكنا في المنزل عندما حدث ذلك». وأشارت إلهام إلى ثقوب الرصاص الموجودة في منزلها.
وتستحضر إلهام صورا من تلك الحادثة بالقول: إن «ضابطا من الجيش السوري الحر طرق بابهم وسأل عمن يوجد بالداخل». وفي هذه اللحظة يرتفع صوت إلهام وتزداد ملامح وجهها حدة وقسوة وتسرد كيف تم طردها من منزلها، وتضيف: «قلت لهم إن والدتي بالداخل وإنها لا تستطيع الحراك، ولكنهم قالوا: إنه يتعين على كلينا الخروج من المنزل بسبب القصف وساعدوا والدتي على الانتقال إلى القرية التالية، لكنها كانت مريضة وخائفة لدرجة أن الطبيب الموجود في تلك القرية لم يتمكن من مساعدتها، ولذا أرسلوها إلى المستشفى في اللاذقية، ولكنها توفيت قبل أسبوعين».
الحرب لها قواعدها الخاصة، وعلى المدنيين المحاصرين فيها أن يتعلموا تلك القواعد بسرعة. يقول الشيخ شريف، وهو قائد لواء الغرباء التابع للجيش السوري الحر الذي استولى على القرية: «هذه القرية كانت خطا أماميا للعمليات القتالية، ولذا كان يتعين علينا أن نسيطر على كل شيء هنا أثناء القتال، ومن الممكن أن يكون بعض المدنيين جواسيس لحساب نظام الأسد، ولذا كان يتعين علينا أن نتأكد من أنهم ليسوا كذلك. عندما نعطي أوامر للمدنيين بمغادرة منازلهم، فإننا نفعل ذلك لحمايتهم».
وعقب انسحاب القوات الحكومية، بدأ الجيش السوري الحر يبسط سيطرته على المنطقة، وبدأ الناس يعودون إلى ديارهم المدمرة. ورغم القصف اليومي، يبدو أن فرص الحكومة لاستعادة السيطرة على هذه القرى باتت ضعيفة للغاية، حيث انتقل الخط الأمامي للمواجهة إلى مكان آخر وباتت القوات الحكومية تركز جهودها على أماكن أخرى.
ومع ذلك، دائما ما تترك الأنظمة، وحتى المكروهة منها، فراغا كبيرا عندما تترك السلطة، وعن ذلك يشرح أحمد من خلف مكتبه في منطقة بداما كيف تداعى القانون والنظام عقب انسحاب الجيش من جبل الكرد، ويقول: «انسحبت الشرطة من جبل الأكراد مع انسحاب الجيش النظامي، ولم يبق سوى أربعة منا في هذه المنطقة».
ويعمل أحمد في الشرطة منذ ما يقرب من 20 عاما، ومع بداية الانتفاضة توقف راتبه، ومن ثم عندما بدأ الجيش السوري الحر في التوغل في المنطقة فر هاربا وبدأ في العمل لإنشاء قوة شرطة معارضة جديدة. ويضيف أحمد: «جاء ملازم في الجيش السوري الحر إلى هنا وتحدث معي وقال: إنهم بحاجة إلى مساعدتي في حماية المدنيين ضد السرقات والعنف. لذا قام أربعون فردا منا – جنود من الجيش السوري الحر وضباط شرطة – بإنشاء مركز شرطة مدني».
ويقول أحمد إن المشروع كان من الممكن أن ينجح، لكنهم واجهوا مشكلة واحدة وهي أنهم يفتقرون إلى المال، فلم يقبض أحدهم راتبا ومن ثم تخلت نصف القوة عن العمل بعد شهرين. وهو الآن يدير المركز مع أربعة متطوعين آخرين منشقين عن النظام. الفراغ الأمني الحاصل بسبب انسحاب قوات النظام من جبل الكرد أدى إلى انتشار السلاح في الشوارع، وتقول إلهام: «عندما بدأ الخطف في جسر الشغور تجمع عشرون شابا مسيحيا واشتروا الأسلحة، وعندما حصلنا على الأسلحة تمكنا من طرد العائلة التي كانت تسبب المشكلات والدفاع عن أنفسنا».
لكن وجود الأسلحة في المجتمع خلق نوعا جديدا من انعدام الأمن، فيحمل الأولاد في سن الرابعة عشرة بنادق الكلاشنيكوف، شمال سوريا، مثل أفغانستان أو البلقان، تبدو كأنها تتحول إلى عسكرة المجتمع بكل المشكلات التي تصاحبها.
في إحدى نقاط التفتيش خارج قرية النجية الكردية، وجدت لافتة بخط اليد وضعت إلى جانب إطار جرار تحمل رسالة غير عادية: «من فضلك لا تحمل أسلحة داخل القرية، نحن نود حماية أمن المدنيين».
ويقول نوري زبيدة، قائد كتيبة أحفاد الرسول التي تتولى مسؤولية نقطة التفتيش: «كثير من الأشخاص يحملون الأسلحة الآن، لكن كثيرين منهم لا يتقبلون كذلك، فهذه ليست طريقة طبيعية للعيش».
لا تزال قرية النجية في قلب الحرب بين قوات الجيش السوري الحر والنظام، فعلى مدى الشهور الماضية تكثف القصف والتفجيرات هنا، والآن يهرب الأفراد كل ليلة إلى الجبال للاختباء في الكهوف. في الوقت ذاته ارتفع عدد السكان نتيجة توافد نحو ألفي لاجئ على المدينة من القرى المحيطة، وتحولت إلى مدينة يسودها التوتر.
ويقول نوري: «بعد التحرير بدأ الناس في إطلاق الرصاص في الهواء للاحتفال. إنه أمر شائع هنا، لكن الناس هنا قلقون بالفعل وقد أصابهم ذلك بخوف شديد، خاصة النساء والأطفال».
ومع مرور كل سيارة بنقطة التفتيش يقوم نوري ورفاقه بتمشيط السيارة بحثا عن الأسلحة، وإذا ما عثروا على أي منها يقومون بسحبها وإعادتها إلى صاحبها عند رحيله عن القرية. ويقول: «أنشأنا هذه النقطة الأسبوع الماضي، وحتى الآن لم يعترض أحد على تسليمنا السلاح. الجميع هنا يرى أنها فكرة جيدة – ينبغي أن تكون النساء والأطفال أولوية بالنسبة لنا».
أعقب نصر الجيش السوري الحر في جبل الكرد مشاكل منها الارتباك والسلاح والجريمة لتصبح بذلك أكبر قوة. ويكتشف الناس الآن في قرية النجية طرقا خاصة بهم لإرساء الأمن في المجتمع، لكن لا يزال السؤال حول كيفية سير هذا المجتمع على المدى المتوسط والبعيد، بلا جواب.
قبل انهيار النظام كان يتم فرض النظام بالخوف. يقول أحمد في مركز الشرطة الذي يعمل به في بداما إنه قبل انهيار النظام: «كان الناس ينفذون ما يطلب منهم لأنهم كانوا خائفين من الاستخبارات أو الشرطة السرية». ما الذي يمكن أن يفرض النظام في المجتمع حاليا بعد انهيار النظام وكل الأجهزة التي كان يخشاها الناس؟ يبدو أن الدين حاليا في جبل الكرد يتدخل في الأدوار التي كانت تضطلع بها الدولة.
في منزله في قرية الزهراء بالقرب من الحدود التركية ينظر القاضي الشرعي عبد البراء في قضية سرقة. ويوضح قائلا: «هناك لاجئون في المحكمة في الوقت الراهن، لذا أنا أنظر في القضايا هنا».
وعاد عبد البراء إلى مسقط رأسه منذ أربعة أشهر لتولي رئاسة أحدث محكمة شرعية في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في سوريا. لقد حصل على شهادة في الشريعة من جامعة دمشق منذ خمس سنوات، لكن لم يكن مسموحا له تحت حكم الأسد إلا بالعمل على قضايا الزواج والطلاق وحضانة الأطفال.
«فيما يتعلق ببقية القضايا كانت الأحكام تؤخذ بالتوافق مع القانونيين الفرنسي والبريطاني» يقول عبد البراء الذي يشير إلى أن المحاكم الشرعية لم تكن تملك صلاحية قانونية للفصل في هذه القضايا.
الآن في المناطق التي يسيطر عليها الجيش السوري الحر، تتضاعف أعداد المحاكم الشرعية – يعرف عبد البراء خمسة وثلاثين محكمة على الأقل في المناطق المحيطة بحلب وإدلب. وبعد أن كانت تلك المحاكم تعمل في البداية كل على حدة بشكل مستقل، اندمجت الآن في كيان واحد، وهو المحكمة الشرعية الموحدة. في المستقبل، ربما تشكل هذه الشبكة المتنامية في سوريا أساسا لقيام نظام قضائي جديد يستند إلى الشريعة الإسلامية.
خارج قاعة المحكمة التي يحكم فيها عبد البراء، تغرب الشمس على جبل الأكراد ويهب الهواء نقيا حاملا معه تغريد الطيور، غير أن هذا الهدوء يتنافى مع حقيقة أن المنطقة ما زالت ساحة حرب. فالمعقل الساحلي للأسد، محافظة اللاذقية، والتي يرى كثيرون أنها ستكون الخط الأمامي التالي، وربما الأخير، تقع على الطريق. ومن ثم، فإن أي انطباع بوجود حياة طبيعية هنا هو مجرد انطباع زائف: الجميع هنا يعلم أن هذه المنطقة ربما تصبح خطا أماميا مجددا، ولكن في حالة حدوث ذلك، فسوف تقوض حالة النظام والانضباط التي ترسخت على مدى الأشهر القليلة الماضية مرة أخرى.
هانا لوسيندا سميث