هل ندخل في زمن المفاوضات؟
بول سالم *
الخميس ١٤ نوفمبر ٢٠١٣
عرّف المفكر العسكري الألماني، كارل فون كلاوزفيتز، الحرب بأنها استكمال للسياسة، ولكن بوسائل أخرى، والعكس قد يكون صحيحاً أيضاً، فالسياسة كثيراً ما تكون استكمالاً للصراع، ولكن بوسائل أخرى. والحال أن الحرب والسياسة ه
ما سبيلان مختلفان لتحقيق هدف محدد. وقد تكون المنطقة قد دخلت مرحلة مفاوضات – مع إيران من جهة حول برنامجها النووي، وربما حول مستقبلها في المنطقة، ومع نظام بشار الأسد من جهة أخرى حول الأسلحة الكيماوية ومؤتمر جنيف 2 لتحديد شكل الفترة الانتقالية السياسية. ولكن، هل نحن على استعداد للمفاوضات بقدر ما نحن على استعداد للنزاع؟ وهل وضعت الدول الأساسية الأعضاء في جامعة الدول العربية إستراتيجيةً لخوض هذه المفاوضات إذا تمّت؟ هل سنجلس إلى طاولة المفاوضات أم سنكون موضوعها؟
قد تكون للمحادثات مع إيران أهميةً تاريخية. فإذا تم التوصّل إلى حلّ للملف النووي – ولا تزال هناك عقبات عدة – قد يشرّع الباب لمفاوضات أوسع نطاقاً حول عودة إيران إلى المجتمع الدولي، ودورها وواجباتها في المنطقة. من المعلوم أن العالم العربي لم يشارك في المفاوضات النووية التي تجريها مجموعة 5+1. إلا أن العالم العربي عليه أن يكون طرفاً فاعلاً وأساسياً في أي محادثات تتناول دور إيران وواجباتها في المنطقة.
تنتقد إيران الدول العربية لأنها دعمت العراق في حربه الطويلة ضد إيران، وهي تدعم العقوبات المفروضة عليها. وتنتقد الدول العربية إيران لأنها تهدد استقرار دول المنطقة، وتدعم ميليشيات مذهبية، ولا تعترف بأبسط مبادئ العلاقات بين الدول. وقد كانت نتيجة هذا «النظام الإقليمي»، القائم على انعدام الثقة والنزاع، زعزعة استقرار العديد من الدول في الشرق الأوسط، والمسّ بالمصالح الأمنية والاقتصادية العربية والإيرانية على حدّ سواء. فمن شأن مفاوضات حقيقية قائمة على الأخذ في الاعتبار المخاوف الحقيقية والمصالح المشتركة للطرفين، أن تساعد على إرساء منطقة تكون أكثر استقراراً وازدهاراً للجميع.
أي موقف يجب أن تتخذه الدول العربية النافذة في حال تمّت معالجة الموضوع النووي وانطلقت محادثات أوسع نطاقاً مع إيران؟ ما هي النتيجة التي يجب السعي إلى تحقيقها؟ قد تجري المقايضة حول الاتفاق على جدول زمني توافق إيران بموجبه على احترام سيادة الدول العربية، وإيقاف سياستها القاضية بتوفير الدعم المباشر للمجموعات المسلحة غير النظامية، والتقيّد بقوانين العلاقات الدولية، ومن الجهة الأخرى، توافق الدول العربية على تطبيع علاقاتها مع إيران شيئاً فشيئاً والمشاركة في رفع العقوبات عنها.
وعلى إيران القبول بالسياق الإقليمي لجامعة الدول العربية، وتقبل واقع أن العراق وسورية ولبنان هي دول عربية ومؤسّسة لجامعة الدول العربية. بالمقابل، على الدول العربية، بالإضافة إلى تعزيز جامعة الدول العربية وتفعيل أدائها، تطوير إطار تواصل إقليمي آخر، على غرار ما اقترحه في الماضي الأمين العام السابق للجامعة العربية عمرو موسى وغيره، يجمع بين الدول العربية وإيران وتركيا، في إطار منظمة يمكنها استيعاب ومعالجة الخلافات وتعزيز المصالح المشتركة للأطراف الثلاثة.
قد لا تجد إسرائيل مشكلة، أو ربما أنها تحبّذ اتباع سياسة النزاع المستمر وعدم التفاوض، إلا أن العالم العربي لا يمكنه القبول بمثل سياسة الحائط المسدود هذه. ولا شكّ أن ثمة توترات وخلافات عدة بين الدول العربية وإيران، كما أن ثمة توترات أخرى سياسية وأمنية في الماضي والحاضر بين العالم العربي وتركيا. ولكن، في نهاية المطاف، نحن دول وأمم متجاورة تاريخياً، تجمعنا مصالح مشتركة على صعيد الاستقرار والأمن والازدهار، كما يجمعنا مسار تاريخي وثقافي طويل.
قد تكون عملية خوض المفاوضات أصعب سياسياً من خوض الصراعات. فالمفاوضات، وما تعنيه من بناء لمجموعة جديدة ومتشعبة من المفاهيم والاتفاقات والمنظمات الإقليمية، تعتبر أكثر تعقيداً من شن نزاع والاستمرار فيه. إلا أن النتائج الناجمة عن المفاوضات، في حال كانت الأطراف جميعها واضحةً بشأن همومها وفي حال تم تناول كل المخاوف والمصالح المشتركة بشكل صحيح، هي أكثر فائدة للجميع. على الدول العربية التعبير بوضوح عمّا تريده من إيران، وعليها إعداد إستراتيجية تفاوض متينة وفعالة في حال مال الوضع إلى هذا المنحى.
أما في سورية، فإعلان المعارضة السورية عن نيتها المشاركة في مؤتمر جنيف 2 إشارة إيجابية. فالصراع على الأراضي السورية مستمرّ منذ أكثر من سنتين ونصف السنة، وقد حان الوقت لأن يفتح خط التفاوض السياسي ولو بشكل مواز.. وفي نهاية المطاف، سيتوجب على الأطراف الأساسية في الساحة السياسية السورية، عاجلاً أم آجلاً، الاتفاق في ما بينها على معالم الفترة الانتقالية، وصيغة جديدة للحكم في سورية، وسياق تجد فيه الأطياف السورية كافةً مستقبلاً آمناً.
ما من حلّ عسكري للأزمة السورية، إلا أن الضغط العسكري جزء مهم من المقاربة. وقد أظهر ملف صفقة الأسلحة الكيماوية أنه عندما يبرز ضغط عسكري خارجي، وفي هذه الحال من الولايات المتحدة الأميركية، ليلقي بثقله على نظام الأسد، وعندما تتوافق الولايات المتحدة وروسيا حول خطوة معينة، يمكن الضغط على نظام الأسد لتقديم تنازلات مهمّة. وبشكل مشابه، لم تكن إيران لتطلب المفاوضات لولا العقوبات الدولية المفروضة عليها. أما المشكلة في مؤتمر حنيف 2 المقترح فهو أنه يقال لنظام الأسد بأن يأتي إلى طاولة المفاوضات ويقدم التنازلات الكبيرة من دون ممارسة الضغط اللازم عليه ليشعر بضرورة تقديم تلك التنازلات.
وقد رفضت الولايات المتحدة أن توفر، أو حتى أن تسمح لغيرها بأن يوفر الدعم العسكري الاستراتيجي لـ «الجيش السوري الحر»، مع أن من شأن هذا الدعم أن يقلب الأفضلية التي يتمتع بها نظام الأسد برّاً وجواً، وتهديد النظام بشكل فعلي. ولن يقوم مثل هذا النظام بتنازلات سوى في الربع الساعة الأخيرة، ويبدو أن ربع الساعة هذه في طور الابتعاد اليوم، لا الاقتراب. وإذا لم تتم ممارسة ضغط أكبر، فيمكن اعتبار أن تنازل النظام عن الأسلحة الكيماوية أعطى الأسد المزيد من الوقت. والخطير في الأمر أن النظام استنتج، وربما عن حقّ، أن الولايات المتحدة وحلفاءها ليسوا على استعداد لتفعيل «الجيش السوري الحر» بشكل حقيقي ولا للتدخل مباشرةً، فما هي الحاجة للتنازلات إذاً؟ إذا لم يتلقَّ «الجيش الحر» الدعم الاستراتيجي وبسرعة، لن تنجح مفاوضات جنيف 2 (أو 3 أو 4..!)، وسيستمر الصراع العقيم في سورية لسنوات طويلة.
في الختام، وبعد مضي أكثر من ثلاثة عقود على حرب بالوكالة بين الدول العربية وإيران، وبعد سنتين ونصف السنة من الصراع في سورية، وبعد سنوات من الصراع في العراق وفي لبنان، لا بد من اختبار مسار التفاوض الإقليمي، وبجدية، وذلك من أجل حلّ – أو على الأقل حلحلة – الصراعات المدمرة، والوصول إلى أسس توازن وتفاهم يرسم إطاراً سليماً للعلاقات الإقليمية، وأرضية ثابتة لاستقرار وازدهار شعوب منطقتنا.
* باحث وكاتب لبناني، نائب رئيس مركز الشرق الأوسط في واشنطن