مثلما دخل الحبس دون سبب، خرج منه بهدوء ودون تفسيرات. كان الرسام السوري يوسف عبدلكي ذاهبا، في الصيف الماضي، في زيارة إلى طرطوس حين أوقفه حاجز للجيش على الطريق. غاب خمسة أسابيع في صالة صغيرة حشروا فيها عشرات الموقوفين، ثم سيق إلى محكمة قضت بإطلاق سراحه فخرج فاقدا ربع وزنه. لماذا وكيف ومن ومتى وأين؟ لا منطق لكل الأسئلة.
في معرضه المقام في باريس، حاليا، تراه يستقبل الأصدقاء بالترحيب والأحضان والضحكات وكأنه لم يعد من بين فكي الموت. من جفن الردى كما يقول المتنبي. إن الصالة الواقعة في قلب مونبارناس، الحي المثقل بتاريخه الفني، صغيرة هي أيضا وتحتشد بالزوار. والفارق ليس في المكان بل في الحرية. عاد الفنان بعد حملة للتضامن معه شارك فيها فنانون من بلاد كثيرة. وكانت عودته حظا وبركة، قبل كل شيء، لأن حملات التضامن التي يقودها المثقفون هي آخر هموم الأنظمة القمعية.
عاش يوسف عبدلكي في باريس ثلاثين عاما. أكمل دراسته ونال الدكتوراه وحفظ الأعمال الكلاسيكية وتشرّب بالتجارب الحديثة وطوّر نفسه وأقام المعارض ورسم للأطفال ونشر الكاريكاتير في أكثر من صحيفة عربية. رفض أن يستبدل بجواز سفره السوري أي جواز آخر. ومثل المنفيين كان الوطن هو داءه ودواءه. لقد طورد هناك، أواخر السبعينات، وأمضى في السجن سنتين بسبب مواقفه السياسية. وكان يرى أن تجربته نزهة بسيطة بالقياس لوالده الشيوعي الذي دخل السجن اثنتي عشرة مرة.
لما ظهرت في الأفق بوادر انفراج، بعد فترة من رحيل رأس النظام، حمل الرسام لوحاته وعاد ليقيم معرضا في دمشق. تلك كانت أحلى أمنياته. ولم يعرف أن الخراب آت. بل عرف. وشمّ الرائحة. وهجس بالخطر. ورأى غمامة مقبلة وجماجم متروكة في العراء وأسماكا وطيورا تتحنط. لقد رسم كل ذلك بقلم الفحم على مساحات رمادية مثل أوراق «النعوة». وجاءت بعض لوحاته كبيرة ومستطيلة بمساحة قبر. أليس هذا ما يسمونه بلغة الفن الطبيعة الصامتة؟ إن طبيعة يوسف عبدلكي ناطقة نسمع نعيبها بأعيننا.
يذهب الناس إلى المعارض ليمتعوا النظر ويروِّحوا عن النفس. إن الفنون هي من أرقى تجليات الإبداع البشري وتكاد متعتها تقترب من الترف. لكن الذاهب إلى معرض عبدلكي يجد نفسه في مواجهة رماد يصدم العين. إنها قتامة قلم الفحم الذي رسم التحجر بخطوط باهرة في دقتها وإيحائها. كان هناك جسد قديس أو شهيد مسجى، وخطّاف حديدي من النوع الذي تعلق عليه الذبائح، وعتلة مسطحة من عدّة البنائين، وسمكة توقفت عن اللبط، وإناء شاي مستوحد، وجمجمة مفلوقة، وأُخرى سليمة تحلق بقربها فراشة ملونة.
هذه الفراشة تقول كل شيء. ولست ناقدة فنية لكن نقادا كتبوا أن عبدلكي، المولود في القامشلي قبل ستين عاما ونيف، تنبأ في لوحاته المتأخرة بالخراب الآتي. وأرى أنه دسّ أملا في صدر الخراب وأن من حقنا عليه ألا يترك الغرفة مظلمة. ذلك أن الفنان كان، طوال السنوات التي عرفناه فيها، يدفع صخرته ويتقدم صاعدا، من الكاريكاتير حتى المأساة. وهو قد خرج من تجربة اعتقال مهينة ولم يبحث عن غار بطولة. إن عمله في هذه الحياة هو أن يرسم لأنه يعتقد أن اللوحة السورية الحقيقية لم ترسم بعد. اللوحة التي بمستوى منسوب الدم. وفي مقابلة معه نشرت مؤخرا، قال: «أظن أننا سنحتاج إلى سنوات كي نرى تلك اللوحة. أعطوا الرسامين قليلا من الوقت. لن يخذلوا أحدا».