حين ثار أهالي أطفال درعا الذين عوقبوا بوحشية غير مسبوقة على أيدي رجال مخابرات درعا، وطالبوا بمعاقبة هؤلاء الأخيرين رجلاً رجلاً. كان ذلك مؤشراً بليغ الدلالة على العُقم الإنساني والعواطف البهيمية. هذه الواقعة أفصحت عن إشكالية تعادل الكون في بؤسها القيمي الأخلاقي. إذ والحال كذلك، هل لا يزال الكون البشري يعيش في العار والشنار أو أن هذا الذي ارتكبه رجال المخابرات إنْ هو إلا هنة لا يُعتد بها في تاريخ البشر بإطلاق أو في تاريخ السوريين بالتخصيص!
تاريخ الثورات الشعبية يكاد يفتقد مثل تلك الواقعة، التي تجد مقياسها فيما هو خارج التاريخ البشري، ربما باستثناء مراحل الظلامية المتمثلة فيما يتصل، مثلاً، بالفاشية الأوروبية الحديثة في ألمانيا، وفي بلدان آسيوية معينة، كتلك التي أنتجت تيمور لنك، ويهمنا ها هنا أن نتبيَّن أسباباً لذلك ربما أو على الأقل في خصوصية التطور البيولوجي البشري. فنحن نعلم منذ القرن التاسع عشر أن علماء تناولوا بالبحث ما اعتبر شروطاً لنشوء الإنسان العاقل، ومنهم المفكر فريدرك إنجلز، الذي تناول ذلك بالبحث بالعلاقة مع بعض الدراسات الخاصة بالعمل البشري وغيره، قد لاحظ إنجلز أن تحول الكائن الحي إلى من اعتبر إنساناً، اقتضى تحقيق ثلاثة عوامل تعمل بصيغة التكامل الوظيفي الطبيعي والسوسيو اجتماعي.
وتأتي تلك العوامل الثلاثة كما يلي: انتصاب الكائن الحي، بحيث يتحرر ظهره من الانحناء، أما العامل الثاني فيفصح عن نفسه في قدرة ذلك الكائن الحي على السير في اتجاهات متعددة. وما يكمل هذا العامل الأخير والسابق عليه تطور ملحوظ للدماغ حجماً ووظائف، مِمّا منح الإنسان ذكاء آخذاً في مزيد من التطور. لن نوغل أكثر في تبيّن مناحي التطور أو التغير سلباً وإيجاباً. فالعواطف التي لا ترتجف أمام استخراج الجمجمة من الرأس والحنجرة من موقعها، وكذلك تشليع الأظافر من أصابع اليد والقدم، إن ذلك معصوب العينين الذي يقدم على ذلك إنما ينتمي إلى «عالم السحر» لدى من يزعم ذلك، وإما إلى «عالم المجرمين»، أو ربما إلى عالم الاستعراضات هنا وهناك.
وقد أصبحت هذه «النشاطات» غير ذي بال في حساب المرحلة الكيماوية، التي أتت على 1600 من الكائنات البشرية السورية في الواحد والعشرين من أغسطس، غالبيتهم من فئة الأطفال.
في تلك المسافة المعقدة والقائمة بين الحقيقة والقيمة الأخلاقية تتضح إشكالية الحياة والموت، فتلك الأولى من الاثنتين نضع يدنا على ما يفضح القتلة، فالحياة لا تقوم على التبشير بها (أي الحياة)، حين تكون مضادة للأطفال الذين تشفط أظافرهم من لحم أيديهم وأرجلهم. حياة هؤلاء هي بالضبط الضد من الموت، فهذا الأخير جرى تطوير هائل لمدلولاته، التي أصبحت تسمى استباحة النساء والفتيات الصغيرات، وقتل الرجال بأي أداة يصادف أن تكون في اليد من العصي الغليظة إلى الرشاش والمدية ثم إلى الصاروخ، أما الحياة فأصبحت تنطوي على ما لا يحصى مما يضادها: لقد حرص النظام على أن يستبدل كل ما يدل على الحياة وما يشير إليها بنقيضها القائل، سواء تجلى بمحاصرة العائلات بأطفالها والكهرباء بالظلام والظلامية، والماء القراح بسائل ينضح منه ما يشير إلى مصدره: مياه الجوارير.
وفي سياق ذلك برز ما يبزّ الحيوانات: استباحة الأمهات أمام الأبناء والزوجات الصغيرات، مع تحذير الأطفال الرضّع، كي لا يفسدون على الغارقين في فعل لاستباحة وعلينا الإشارة إلى ضبط ذلك كله في سباق تفكك نظام الاستبداد والفساد ففي هذه الحال تتصاعد وتائر الحقد والدم الأسود، الذي يغلي اشتعالاً في أجساد القتلة – الشبيحة، الذين يعلنون أسماء الآلهة والمقدسات على الآخرين أن ينحنوا أمامها تبجيلاً وتقديساً.
هكذا تكون جدلية القيمة الأخلاقية من طرف بين كلما لا يتوافق مع ما تواضع عليه البشر تحت خط «القيم الأخلاقية» من مثل الشرف الإنساني والشرف الوطني وحب الإنسانية في تجسداتها الأكثر حميمية وطيباً وشفافية (نعني الأطفال والطفولة) والشهامة والحرية والعدالة والرفق حتى بالحيوان من طرف، وبين الحقيقة من طرف آخر، قائمة على التضاد والرفض، بحيث لا يلتقي ذينك الطرفان إلا تحت جنح الموت الزؤام والشر.