أي شيء إلاّ السياسة: وضع المعارضة السياسية السورية
المعارضة السياسية في سورية، التي تواجَه غالباً بالازدراء بسبب خلافاتها الداخلية أو تُسقَط من الحساب بسبب عدم صلتها بما يحدث في البلاد، هي انعكاس للتناقضات، وحالات سوء الفهم والمصالح الجيوسياسية المتعارضة التي بُنيت عليها. من المؤسف أن هيئاتها السياسية الرئيسية أخفقت في التغلب على نقاط ضعفها البنيوية ولم تتمكن من لعب دور مُبادِر. لكن من المؤسف أيضاً أن حلفاء المعارضة الغربيين والعرب أخفقوا بشكل ملفت في معالجة الطريقة التي أدت بها إشاراتهم المختلطة، وأجنداتهم المختلفة وضعف التنسيق فيما بينهم إلى تقويض نفس الهيكليات التي يسعون ظاهرياً إلى تمكينها.
إن إنهاء الحرب بشكل مستدام سيتطلب نشوء معارضة تمثيلية تحظى بالمصداقية؛ ورغم عيوبه ونواقصه، فإن الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية (الائتلاف) هو وحده الذي يمكن أن يتجاوز هذا الاختبار. لكن كي يتمكن من فعل ذلك، ينبغي عليه تعزيز حضوره على الأرض بشكل كبير؛ كما ينبغي على داعمي المعارضة تنسيق مساعداتهم؛ وعلى الجميع أن يطوروا استراتيجية للتعامل مع الظاهرة الجهادية المتنامية.
تكمن جذور المصاعب التي تواجهها المعارضة السياسية، أولاً وقبل كل شيء، في البيئة الداخلية القمعية التي انبثقت منها. وقد كانت النتيجة خليطاً غير متجانس من المنفيين، والمثقفين والمعارضين العلمانيين الذين يفتقرون إلى قاعدة سياسية حقيقية، إضافة إلى الإخوان المسلمين المنفصلين عن قاعدتهم الطبيعية. وهكذا، ليس من المستغرب أنه عندما بدأت الانتفاضة، كان هذا الطيف المتنوع من المجموعات والأفراد يفتقر إلى الصلات بأولئك المتظاهرين في الشوارع، بل إنهم كانوا يفتقرون أيضاً إلى أية خبرة سياسية وإلى الوسائل التي تمكّنهم من تقييم الثقل الشعبي لكل منهم.
عندما منح النشطاء على الأرض خاتم الشرعية للهيئات التي نشأت في المنفى ـ أولاً، في تشرين الأول/أكتوبر 2011، في حالة المجلس الوطني السوري؛ ومن ثم، في تشرين الثاني/نوفمبر 2012، للائتلاف ـ فإنهم لم يعبّروا بذلك عن وقوفهم وراء قيادة سياسية معينة. في الواقع، فإنهم كانوا ينظرون إلى المعارضة السياسية على أنها التعبير الدبلوماسي عن الانتفاضة، أي أنها هيئة تتمثل وظيفتها الأساسية في حشد الدعم الدولي. وكان هذا الفهم يستند إلى رهان ضمني مفاده أنه مع تصاعد حدة العنف الذي يمارسه النظام، فإن الغرب سيتصرف كما في السابقة الليبية وسيسهم، من خلال العمل العسكري، في إسقاط الرئيس بشار الأسد.
لكن المشكلة كانت في أن منظورهم كان يختلف بشكل صارخ مع منظور الحكومات الغربية المعنية، خصوصاً واشنطن. بالنسبة لإدارة أوباما، فإن مثل ذلك التدخل العسكري المباشر لم يكن مطروحاً بشكل فعلي. بدلاً من ذلك، فإنها كانت تعتقد أن الأولوية تتمثل في أن تتوحد المعارضة وأن تقدم رؤية عريضة وجذابة لمستقبل سورية بعد الأسد. على النقيض من ذلك، فإن المعارضة وجدت أن تلك المهام ـ التي يصعب تحقيقها نظراً لتنوع المعارضة وبُعدها عما يجري على الأرض ـ كانت ذات قيمة فقط في حال ربطها بدرجة أكبر بكثير من الدعم الغربي. انتظرت واشنطن قيام المعارضة بتحسين أدائها؛ في حين كانت المعارضة تنتظر أن تقوم واشنطن بتمكينها. كان كلا الجانبين يتشاطران الهدف المتمثل في سورية دون الأسد، لكن لم يقم أي منهما بتطوير استراتيجية لتحقيق ذلك الهدف وبشكل يأخذ في الاعتبار القيود المفروضة على عمل الطرف الآخر، مما أدى إلى نشوء حلقة من الإحباط وانعدام الثقة قوّضت مصداقية المعارضة السياسية والحكومات الغربية على حد سواء في أعين القواعد الشعبية للانتفاضة.
قد يكون العامل الذي ألحق أكبر الضرر بالمعارضة هو غياب التنسيق بين داعميها الإقليميين، والذي تتجلى تبعاته على المستويين السياسي والعسكري. سياسياً، غذّت المنافسة بين داعميها الأكثر أهمية، السعودية وقطر، الديناميكيات الانقسامية داخل الائتلاف. وقد ثبت أن ذلك أدى إلى حرف الائتلاف عن مهمته الرئيسية بشكل كبير؛ وعند بعض النقاط المفصلية أدى إلى وقف نشاط الائتلاف بشكل كامل.
عسكرياً، كانت المنافسة القطرية ـ السعودية وجهاً واحداً فقط من الأوجه العديدة لفشل عملية التنسيق في المنطقة. وقد ساعد هذا في تهيئة ظروف ملائمة لازدهار المجموعات الأكثر تطرفاً. هيئة الأركان العامة، برئاسة سليم إدريس، لها ممثلين في الائتلاف وتحظى باعتراف الداعمين الخارجيين للمعارضة ـ على الأقل على الورق ـ بوصفها القناة الوحيدة لتقديم الدعم العسكري. لكنها لا تتمتع سوى بنفوذ ضئيل على الأرض، ويسهم في إضعافها ليس فقط غياب الدعم الغربي الحقيقي بل التصوّر واسع الانتشار بأنها لا تستطيع السيطرة على توزيع المال والسلاح على الفصائل المسلحة المختلفة؛ حيث يبدو أن القرارات بهذا الشأن تتخذ في الدوحة والرياض. كما أن المجموعات المسلحة التي تحتاج المال والسلاح لديها خيارات بديلة تتمثل في المغانم التي تكسبها من مستودعات أسلحة النظام؛ والسيطرة في بعض الأحيان على بعض الأصول المربحة مثل المنشآت النفطية والمعابر الحدودية؛ ومبالغ كبيرة يقدمها متبرعون أفراد، بشكل أساسي من منطقة الخليج.
وتزداد الأمور سوءاً. في 24 أيلول/سبتمبر 2013، أصدرت عدة فصائل قوية من فصائل المعارضة المسلحة بياناً ترفض فيه صراحة شرعية الائتلاف. وأتى ذلك بعد شهور من الإحباط الشعبي المتنامي حيال الائتلاف، أسهم فيه جزئياً التصوّر بأنه انصرف بشكل غير متناسب إلى التركيز على الخلافات الداخلية، وكذلك الإحساس بأنه أخفق في مهمته الرئيسية المتمثلة في حشد الدعم الخارجي الحاسم.
ما الذي يمكن فعله؟ لقد كان تشكيل تجمّع سياسي بديل مغرياً على الدوام، لكن من غير المرجح أن يفضي إلى نتائج مختلفة بشكل كبير. لم يحظ الائتلاف في أي وقت من الأوقات بنفوذ كبير على المجموعات المسلحة، وليس ثمة ما يدفع إلى الاعتقاد بأن أي هيئة معارضة أخرى يمكن أن تتغلب على العقبات الجيوسياسية التي واجهها الائتلاف. ينبغي التركيز بدلاً من ذلك على التغيرات الواقعية التي تأخذ في الاعتبار الظروف الراهنة والمتمثلة في أن دول الخليج ستستمر في مساعدة المعارضة المسلحة؛ وأن الفصائل على الأرض ستستمر في القتال؛ وأن الإدارة أمريكية استثمرت على نحو متزايد في العملية السياسية المدعوّة “جنيف 2”. ينبغي التركيز بشكل أساسي على ما يلي:
على الدول الخارجية الداعمة للمعارضة أن تُحسّن التنسيق فيما بينها بشكل جذري، خصوصاً من الناحية العسكرية؛
ينبغي أن يكون ذلك مصحوباً بجهود تحد من القنوات البديلة للدعم المادي واللوجستي؛
على دول الخليج بشكل خاص أن تمنع قيام الأفراد بتمويل هذه المجموعات، وعلى تركيا أن تفعل المزيد لوقف تدفق المقاتلين والممولين الأجانب عبر حدودها الجنوبية.
من أجل تعزيز حضوره على الأرض، على الائتلاف أن يسعى للعب دور مباشر في تقديم الخدمات الأساسية في المناطق التي تسيطر عليها فصائل المعارضة المسلحة، بما في ذلك الغذاء، والتعليم وفرض تطبيق القانون. وهذا يتطلب التعاون بين مجموعات المسلحين الأساسية وغير الجهادية، وهو التعاون الذي ينبغي على الدول الداعمة الرئيسية السعي لضمان تحققه؛
على الائتلاف وداعميه تطوير استراتيجية فعالة للتعامل مع التهديد الملحّ الذي تشكله المجموعات الجهادية. إضافة إلى تحقيق التقدم في المجالات الثلاثة الآنفة الذكر، فإن هذا يحتم تعزيز مبادرات المجتمع المدني وشبكات النشطاء؛
رغم تحفظات الائتلاف على عملية جنيف 2، ينبغي عليه أن يضع استراتيجية واقعية حيال ما يظل أفضل أمل في إنهاء الحرب. وينبغي أن يترتب على ذلك، على سبيل المثال، التوصّل إلى إجماع داخلي حول معايير عملية للمفاوضات.
بيروت/دمشق/بروكسل، 17 تشرين الأول/أكتوبر 2013