اقتراح المبعوث الدولي، دي ميستورا، إنجاز مصالحات ميدانية في سورية تبدأ بتجميد الوضع في مدينة حلب تمهيداً للتفاوض ولفك الحصار عن مناطق باتت تفتقد أبسط مقومات الحياة، والزيارة المثيرة للجدل التي قام بها الرئيس السابق لائتلاف المعارضة، معاذ الخطيب، إلى موسكو وما أسفرت عنها من ردود فعل، بعضها كان غاضباً ورافضاً، وبعضها وجد فيها بارقة أمل في طريق الخلاص، وعودة الدور الروسي إلى الواجهة وما يثار من أحاديث حول “جنيف “3 أو “موسكو 1” ثم التسريبات عن وجود مساعٍ أو مشروع مبادرة يحركها النظام المصري لاختراق الاستعصاء السوري المزمن…
كل ما سبق وقائع تشير إلى عودة الاهتمام العالمي والعربي بوضع حد للصراع الدائر في سورية منذ أكثر من ثلاث سنوات، وتثير تالياً السؤال: هل ثمة فرصة حقيقية لتقدم حل سياسي يوقف العنف المتمادي وينقذ المجتمع والدولة من براثن التفكك والضياع؟!
ثمة من يجيب بنعم، مستنداً إلى متغيرات حصلت في المشهد السوري وجعلته أكثر استعداداً للتسويات السياسية عما كان عليه عشية انعقاد مؤتمر “جنيف 2”. أول المتغيرات الدخول الصريح لتحالف عسكري، غربي وعربي، في الصراع بغرض التصدي لتمدد “دولة الخلافة الإسلامية”، الأمر الذي يفضي بالضرورة إلى دور سياسي أكثر تأثيراً لدول التحالف في تقرير المصير السوري، بما في ذلك الضغط على الأطراف المتصارعة وتطويع مواقفها.
ثاني المتغيرات تنامي الحاجة لدى حلفاء النظام لتمرير حل سياسي يخرجهم من حالة الاستنزاف المنهكة. فموسكو التي تتحمل المسؤولية الأكبر في إدارة الملف السوري، تبدو اليوم أقل قدرة على تحمل مزيد من أعباء استمرار الصراع وأكثر ميلاً لمعالجته سياسياً، خصوصاً مع انشغالها بالحدث الأوكراني وبتخفيف الأضرار الناجمة عن العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، ربطاً بخشيتها من انفلات الخيوط من أيديها بعد أن شرّع العالم حق التدخل العسكري لمواجهة “داعش” على الأرض السورية… في حين تزداد معاناة طهران الاقتصادية مع تراجع عائداتها المالية جراء الانخفاض المتواتر في أسعار النفط، ومع استنزافها المتعدد الوجوه في العراق وسورية واليمن. وقد لا يكفي لخداع أحد التقدم الميداني الذي حققه الحوثيون هناك، طالما سيرثون دولة مفككة واقتصاداً منهاراً، وما يترتب على ذلك من عبءٍ كبير ومرهق على الحليفة إيران.
ثالث المتغيرات، تزايد الضغط الإقليمي لإطفاء بؤرة التوتر السورية. فالتخوف صار على أشده مما تخلفه هذه البؤرة من استقطابات حادة واحتقانات مذهبية وطائفية، ومن أخطار اجتماعية واقتصادية على بلدان الجوار نتيجة الازدياد المتواتر لأعداد اللاجئين السوريين على أراضيها.
ورابع المتغيرات تنامي استعداد الأطراف الداخلية لقبول حل سياسي، إن لجهة شيوع رغبة عارمة لدى الناس بضرورة الخلاص أمام التدهور المريع في شروط حياتهم وعيشهم وأمنهم، وإن لجهة حالة التعب والإنهاك التي أصابت القوى المتصارعة ووصولها كلها إلى اقتناع بعجز أي منها عن تحقيق الحسم، وبأنها باتت، وبدرجات مختلفة، مرتهنة لإرادة داعميها وحساباتهم، وأبعد من رفض أي تسوية سياسية يقررونها.
في المقابل، ثمة من يجيبون بلا، ويعتقدون بأن ما يثار عن مبادرات سياسية ليس أكثر من ذرٍّ للرماد في العيون، مرة لأنهم لا يرون مصلحة دولية عموماً وأميركية تحديداً، في إنهاء الصراع السوري طالما يحقق لأصحاب هذه المصلحة أكبر فائدة في تاريخ مواجهة الإرهاب، وهو كشف واستجرار أهم قادته وكوادره إلى المحرقة، وطالما لا يزال صالحاً للاستثمار في استنزاف خصومهم. ولا يغير هذه الحقيقة بل يؤكدها الإصرار الأميركي على إدارة المعارك من بُعد، عبر الضربات الجوية والحرص على عدم زج قوات برية، ثم وضع زمن افتراضي شبه مفتوح يصل إلى سنوات للنيل من “دولة الخلافة الإسلامية”.
ومرة ثانية، لأنهم يعتقدون بأن المجتمع الدولي وإن كان راغباً في وضع حد لما يجري في سورية فهو غير قادر بسبب خصوصية الصراع وتشابكاته الإقليمية. فخارجياً يعترف هؤلاء بالمرونة والميل المستجدين لدى روسيا وإيران للإسراع في المعالجة السياسية، إلا أنهما لن تقبلا بتسوية لا تضمن لهما استمرار جوهر السلطة ونفوذهما المشرقي، يزيد الأمر تعقيداً زجهما الوضع السوري في لعبة المقايضة والابتزاز، بحيث يغدو واحدة من الأوراق التي يمكن أن توظفها موسكو لمقارعة الغرب وتخفيف حدة العقوبات الاقتصادية، أو تلوح بها طهران لتقوية موقعها التفاوضي حول ملفها النووي. وداخلياً يعتقد أصحاب هذا الرأي بأن السلطة ليست على استعداد لتقديم تنازلات سياسية، خصوصاً مع نجاحها في استعادة بعض مناطق ريف دمشق وحمص، وتالياً ليست في وارد التراجع عن خيار الحسم العسكري وتصعيد وتيرة العنف لسحق ما تعتبره مجموعات مسلحة متآمرة ولإعادة المجتمع إلى بيت الطاعة، في حين يصعب على المعارضة السياسية قبول أي حل أو مبادرة لا تتفق مع مطلبها في إحداث تغيير جذري… خصوصاً أنها محكومة برفض أشد يرجح أن يأتي من الجماعات العسكرية المتواجدة على الأرض، وهي الأكثر تأثيراً على مجريات الصراع.
ويبدو أن فرصة السير في طريق المعالجة السياسية للصراع السوري لم تعد مُلكاً لجهة واحدة، بل تحكمها ارتباطات ومصالح متداخلة، زادها تعقيداً طول أمد الصراع وما كرسه من نتائج مؤلمة يصعب تجاوزها راهناً، وقد يقود تفاقمها إلى مسار خطير يصل إلى إطاحة أبسط الحقوق الإنسانية، وتدمير مقومات الحياة المشتركة والمعايير الوطنية الجامعة.
وإذ يلف الغموض مصير السوريين على اختلاف اصطفافاتهم ومعاناتهم، يتعزز إحساسهم بالخسارة والضياع، ربما من خطورة استمرار العنف وما يخلفه من خراب ودمار وأعداد تتزايد من الضحايا والمعتقلين والمشردين، وربما من استباحة بلادهم وتحوّلها ساحة صراع على النفوذ بين الأطراف الإقليمية والعالمية.
المصدر : جريدة الحياة