تقول الرواية أنّ “جحا” كان يملك داراً، وأراد أن يبيعها دون أن يفرط فيها تماماً، فاشترط على المشتري أن يترك له مسماراً في حائطٍ داخل المنزل، فوافق المشتري دون أن يلحظ غرض جحا من وراء الشرط، لكنه فوجئ بعد أيام بجحا يدخل عليه البيت، بحجة أنه يريد الاطمئنان على مسماره، وحين تكررت زياراته للسبب نفسه، لم يستطع المشتري الاستمرار على هذا الوضع، وترك لجحا الدار بما فيها وهرب.
وأصبح الناس يتخذونه مثلاً يضرب عند استخدام الحجج الواهية للوصول إلى الهدف المطلوب، وقد شهد التاريخ السياسي أمثلة عدة لتدخل عدد من الدول في الشؤون الداخلية لدول أخرى بحجة تداخل أراضي بلدها مع البلد الجار، دون إيجاد حلول لها تنهي أزماتها.
ويبدو أنه في الميدان السوري هناك مَن يستخدم وسيلة “جحا” للوصول إلى مآربه الخاصة، وخصوصاً تركيا التي بدأت لعبتها منذ انهيار السلطنة العثمانية عام 1922 حيث وقعت مع فرنسا (دولة الانتداب على سوريا آنذاك) معاهدة أنقرة عام 1921 قضت بموجبها أن يبقى ضريح سليمان شاه (جد مؤسس الخلافة العثمانية) تحت السيطرة التركية، رغم وقوعها داخل الأراضي السورية، وتحديداً في محافظة حلب.
وقد تدخلت أنقرة مرات عدة في رسم معالم مستقبل الضريح، كان آخرها في شباط/ فبراير 2015 حيث نُقلت رفات سليمان شاه بسبب المشاكل الأمنية من ضريحه في قرية قرة قوزاق شرق نهر الفرات إلى قرية أشمة في محافظة حلب، في عملية نفذها الجيش التركي داخل الأراضي السورية، وسيطر بموجبها على جزء من جغرافية المنطقة تلك، ورفع العلم التركي عليها.
قضية أخرى في غاية الأهمية تسير في نفس المنحى تركياً، وهي قضية نقاط المراقبة التركية في مدينة إدلب شمال غربي سوريا، ورغم أن الجيش السوري قد استعاد السيطرة على عديد المناطق من الفصائل الموالية لأنقرة، إلا أن الجانب التركي يصر على بقاء تلك النقاط في مواقعها.
يبدو التمسك التركي هذا أقرب ما يكون إلى أن يكون بمثابة “مسمار جحا” الذي يتيح له التدخل في الشأن السوري أنى أراد، فمنذ أن اتفقت الدول الضامنة (روسيا وتركيا وإيران) مع فصائل المعارضة السورية وممثلي النظام السوري، على اتفاق في 15 أيلول/سبتمبر، وفقاً لاتفاق “خفض التصعيد” المنبثق عن “مؤتمر أستانا 6” لضمان وقف إطلاق النار في المنطقة، حيث نشر الجيش التركي حينئذ قواته في عدد من النقاط في محافظتي حلب وإدلب، وبدأ بتشكيل نقاط مراقبة في منتصف تشرين الأول من العام 2017.
وكذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية تستخدم هذه الطريقة كي تترك لها موطئ قدم في المناطق النفطية في شرق الفرات، بالإضافة لتواجدها في منطقة التنف الواقعة على المثلث السوري العراقي الأردني، وذلك لمنع وصول الإمدادات الإيرانية إلى كل من الحكومة السورية، وحزب الله اللبناني بالشكل الذي كان متبعاً قبل العام 2011.
كذلك فإن الوجود الأمريكي في المناطق النفطية في شرق الفرات، بعد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب جنوده من سوريا، قبيل العملية العسكرية التركية، بمساندة الفصائل السورية الموالية له، في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، والتي انتهت بسيطرتها على ما اصطلح على تسميته بـ “المنطقة الآمنة” والتي تمتد بين مدينتي رأس العين وتل أبيض.
بات من الواضح أن الوجود الأمريكي أيضاً سببه الرغبة بإبقاء ذريعة لها للتدخل في الحرب السورية، وذلك بعد أن أخرجت نفسها من نادي اللاعبين الفاعلين في الحل السياسي، وتسليم دفة قيادة العملية السياسية إلى روسيا، وهو ما عبر عنه الرئيس ترامب غير مرة، حين قال إن سلفه الرئيس باراك أوباما هو الذي سلّم مفاتيح حل الأزمة السورية إلى روسيا ورئيسها بوتين.
يبدو الوجود التركي بنقاط مراقبته في إدلب، مؤقتاً إلى حين إنضاج تسوية ما مع روسيا بخصوص مصير مناطق الإدارة الذاتية في شرق الفرات، وإلى ذلك الحين فإن أنقرة ستبقى تحتفظ بوجود رمزي لها، كما الآن، لعل بقاءها يصبح أمراً واقعاً فيما لو تأخر الحل السياسي أكثر من ذلك، وكذلك الأمر فإن نصرة التركمان السوريين هي ذريعة إضافية لتركيا كي تتدخل في الشؤون الداخلية السورية.
أما الولايات المتحدة فهي الأخرى تريد ثمناً لخروجها من سوريا، هي غير مستعدة لتقديم أي تنازلات مجانية قادمة كالتي منحتها لتركيا في حربها الأخيرة على مناطق الإدارة الذاتية، وبالتالي ستبقى متواجدة في المناطق النفطية في كل من الحسكة ودير الزور، إلى أن تنضج الظروف لإيجاد تسوية ما، تفضي إلى خروج إيران من المشهد السوري، أو على الأقل تحجيم دورها المتنامي خلال السنوات العشر الأخيرة، وتعول في رهانها هذا على حاجة الحكومة السورية للموارد النفطية، والغازية، وكذلك المائية، كي تخرج من عنق الزجاجة التي وضعتها بها الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعاني منها دمشق، وما هي مقبلة عليه عند تطبيق قانون قيصر المرتقب في شهر حزيران/ يونيو من العام الحالي.
ربما يعول الجانبين التركي والأمريكي على عامل الوقت لإنهاك خصومهما في الميدان السوري، بغية فرض أمر واقع عليهم في المستقبل، لكن الحرب السورية عوّدت الجميع أن لا يقامر بربط مصيره بفرضية ما، وأن الحلول السياسية الواقعية هي أسلم وأأمن من انتظار المجهول.
عن موقع نورث برس