عند استحضار الأزمات التي ألمّت بالسوريين خلال السنوات العشر الماضية، ربما من المفيد أن نستذكر تعامل السلطات معها، علنا نعتبر من التشخيص الخاطئ، ومن ثم التعامل معها بناء على ذلك التشخيص.
بالإضافة إلى حالة الاستعصاء التي مرت بها سوريا منذ 2011 فقد مرت بتجارب أخرى زادت من معاناتها معاناةً أخرى، فحالة الكباش التي حصلت بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، وتنافس المحور السعودي التركي مع المحور الإيراني، ومن ثم التنافس السعودي التركي في سوريا، كلها أزمات ساهمت في إطالة أمد الصراع السوري، دون أن تجهد دولة ما في إطفاء جذوة الحرب التي آذت السوريين بقضهم وقضيضهم.
تعاني السلطات في مناطق شمال وشرقي سوريا، التي تعيش تجربة حكم فتية، بدأت منذ عام 2014 واتسعت أركان حكمها حتى وصلت إلى ما يقارب ثلث الأراضي السورية، في منطقة معقدة إثنياً وعرقياً وطائفياً، تعاني من القضايا الملحة التي تواجهها في الشق المدني، بعد أن كان الصراع العسكري هو ديدنها خلال سنوات حكمها الست.
بانتهاء الخطر العسكري لتنظيم “الدولة الإسلامية” في نيسان العام 2019 والتسليم بالوضع القائم في ما يسمى مناطق “نبع السلام” انتقلت الإدارة الذاتية من مرحلة الحكم العسكري بلبوس مدني، إلى الحالة المدنية شبه البحتة، مع بقاء التعامل الأمني مع بعض خلايا التنظيم، وكذلك ملف معتقليه الذي لم تستطع “الإدارة” تجييره لصالحها إلى الآن، بالإضافة إلى ملف عائلات التنظيم في مخيمات اللاجئين، والتي هي بدورها أصبحت عبئاً ثقيلاً يفوق إمكانيات الإدارة.
الأزمة المالية التي عصفت بسوريا خلال الأشهر القليلة الماضية أتت فعلها على سكان مناطق الإدارة الذاتية كذلك، فعلى الرغم من وجود غالبية منابع النفط والغاز السوري في مناطق شرق الفرات، إلا أن ذلك لم يسهم في التخفيف من وطأة معاناة السكان من هذه الأزمة، ولم تواجهها “الإدارة” سوى بزيادة رواتب العاملين لديها، والتي لم تكن سوى ذراً للرماد في العيون، في ظل الارتفاع غير المعقول للأسعار.
جائحة كورونا هي الأخرى كانت اختباراً لقدرة الإدارة على مواجهة الأزمات، لكنها أظهرت ضعفاً كبيراً في البنية التحتية لمواجهة هكذا كوارث، فلا مشاف ولا مستوصفات كافية لاستقبال جيوش المصابين فيما لو انتشر المرض على نطاق مشابه لما تمر به عدد من دول الجوار، كإيران وتركيا، ولا علاقات خارجية يعتد بها للمساهمة في مواجهة الأزمة، واكتفت “الإدارة” بإغلاق معبر سيمالكا الحدودي مع إقليم كُردستان العراق، وفرضت حظراً للتجول، درءاً لوصول المرض إلى داخل مناطقها، حيث إنها لم تتمكن من الحصول على أجهزة لكشف المرض إلى الآن، واكتفت بترويج إعلامي لاختبار قد يساعد على كشف احتمالية إصابة الشخص بهذا المرض.
كل هذا بالإضافة إلى ازدواجية السلطة داخل مناطق الإدارة، فمناطق سيطرة الحكومة السورية فيها، أو ما يعرف بـ “المربعات الأمنية” غير مشمولة بقرارات الإدارة، وثمة تداخل بين مناطق سيطرة السلطتين، وبالتالي فخطر انتقال العدوى بين سكان المنطقتين هو أمر وارد بالفعل، بالإضافة إلى حالة عدم الانسجام الحكومي بين الحكومة المركزية للإدارة الذاتية في عين عيسى، وحكومات الإدارات الذاتية والمحلية فيها، حتى بات تضارب قرارات السلطات سمة بارزة للواقع الحكومي.
القضية التي من المتوقع بروزها خلال أشهر قليلة هي تفعيل العقوبات الأمريكية على سوريا، والمعروفة باسم “قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا” نسبة إلى منشق سوري يكنى بـ “قيصر” قام بتصوير آلاف الصور داخل أقبية السجون السورية، مستخدماً محركات أقراص خبأها في جوربه.
وتعتبر هذه العقوبات التي يمكن أن تتعرض لها الحكومة السورية الأشد من نوعها منذ اندلاع الحرب السورية، ويمكن اعتبارها بأنها الحد الأعلى ما دون التدخل العسكري المباشر، ولا بد من أن يطال تأثير هذه العقوبات المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية، ومنها مناطق الإدارة الذاتية في شمال وشرقي سوريا.
ومن المتوقع أن يوضع القانون موضع التنفيذ في شهر حزيران/يونيو، وسيستهدف أركان الحكم في سوريا وكل من يتعاون معهم، سواءً الأفراد أو المؤسسات.
ومن شأن هذه العقوبات أن تزيد من معاناة سكان سوريا، ومنهم سكان مناطق الإدارة الذاتية، والذين يعاني غالبيتهم من أوضاع معيشية صعبة للغاية، وزاد من معاناتهم الحجر الصحي الإلزامي المفروض نتيجة جائحة كورونا، ولن يتمكنوا من تحمل أي ضغوط إضافية تثقل كاهلهم، وبالتالي ستواجه المنطقة جيوشاً من الفقراء، وهي معرضة لخطر اندلاع ثورة جياع، من الممكن أن تستثمرها عدة أطراف سورية وإقليمية، والتي -إن بدأت- فلن توقفها أية إصلاحات شكلية كالتي اتبعتها أنظمة الحكم في العالم العربي في مواجهة انتفاضات شعوبها.
العام الحالي مفصلي بالنسبة للتسوية السياسية للحرب السورية، فهو عام انتخابات الرئاسة الأمريكية المقررة في تشرين الثاني/نوفمبر، وبالتالي حسم رهان تعويل “الإدارة” على الولايات المتحدة في حال بقاء الرئيس ترامب من عدمه، وكذلك فإن ملف إدلب يقترب من خواتيمه، والروس والحكومة السورية ألمحوا عديد المرات إلى وجوب تسوية ملف شرق الفرات عقب الانتهاء من إدلب، والانتهاء من الملفات السورية العالقة قبل الاستحقاق الرئاسي السوري عام 2021 حيث المطلوب روسياً أن تتم الانتخابات بأصغر نسبة مقاطعة لها، ومشاركة أكبر عدد من السوريين فيها، وهو ما لا يتحقق ببقاء الوضع على ما هو عليه في إدلب وشرق الفرات.
الاستفادة من هذه الفرصة مطلوبة من جانب الإدارة الذاتية، فدمشق بحاجة إلى الموارد الطبيعية في شرق الفرات، وكذلك فلا غنى عن مشاركة السوريين في هذه المناطق في الاستحقاقات القادمة، وهي فرصة سانحة للوصول إلى مفاوضات جدية تفضي إلى نتائج مقبولة على قاعدة لا غالب ولا مغلوب.
نقلا عن موقع نورث برس