كثيرةٌ هي القِوى التي ساهمت في إبقاء أتون الحرب السورية مشتعلاً منذ اندلاعها مطلع 2011 سواءً بالدعم المالي أو اللوجستي أو العسكري، لكن عددٌ قليل منها احتفظ بالموقف ذاته منذ ذلك الحين إلى الآن.
ولعل روسيا الاتحادية من الدول القلائل التي ظلّت تدعم حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، وأقامت عدة تحالفات بغية الحفاظ على كينونة النظام الحاكم في دمشق، وقد نجحت في ذلك بالفعل، وليس أدلّ على ذلك من تحالف أستانة بينها وبين طرفين كانا على طرفي نقيض في الحرب، وهما تركيا وإيران.
كان الاتفاق الروسي الأميركي عام 2016 نقطةً فاصلة في مسار الحرب السوريّة، فقد كانت تقسيماً حقيقياً للنفوذ، حده الفاصل هو نهر الفرات، فالمناطق الواقعة شرق النهر كانت من ضمن النفوذ الأميركي، في ظل وجودٍ محدود للحكومة السورية في الحسكة والقامشلي، أما النفوذ الروسي فهو في غرب الفرات، مقابل وجودٍ أميركي في مدينة منبج.
العلاقة التركيّة الروسيّة كانت في أسوأ أحوالها منذ اندلاع الحرب السوريّة، حتى وصل الأمر بأنقرة لإسقاط طائرة (سوخوي) الروسيّة عام 2015 فكانت نقطةً فاصلة في علاقات البلدين، بدأت من إجبار بوتين نظيره التركي على الاعتذار باللغة الروسية عن إسقاط الطائرة، ما شكّل بداية التنسيق بين الجانبين، إلى أن وصلا إلى تفاهماتٍ واسعة تتعلّق بمصير مناطق مهمة في سورية مثل مقايضة حلب بمدن جرابلس، الباب وإعزاز في ما سمي بعملية “درع الفرات” عام 2016.
وكذلك عملية “غصن الزيتون” مطلع 2018، حيث انسحبت القوات الروسية المتواجدة في عفرين آنذاك إيذاناً بدخول القوات التركية والفصائل السورية الموالية لها إلى المدينة، وذلك مقابل تخلّي أنقرة عن حلفائها في ريف دمشق.
التعاون الروسي التركي الآخر كان عقب دخول القوات التركية والفصائل الموالية لها إلى المنطقة الواقعة بين سري كانييه وتل أبيض ضمن عملية “نبع السلام” أكتوبر تشرين الأول 2019، وذلك بعد الخروج الأميركي من جلّ قواعده العسكرية في تلك المناطق، ما استدعى مناشدة قوات سوريا الديمقراطية لموسكو بالتدخل لعقد اتفاقٍ بينها وبين الحكومة السورية، وكان ذلك ما تمّ بالفعل في اليوم الرابع للعملية العسكرية، وقضى بانتشار الجيش السوري على كامل الشريط الحدودي السوري التركي، على أن تتبعه مفاوضات سياسية برعايةٍ روسية.
الانتهاكات الكبيرة التي مارستها الفصائل الموالية لتركيا قوبلت بضغطٌ دولي ومن الداخل الأميركي على الرئيس دونالد ترامب، لتخليص الكُرد من مذبحةٍ متوقّعة على يد تلك الفصائل، وداعميهم من الجيش التركي، ما استدعى حينها اتفاقاً أميركياً تركياً بإيقافٍ مؤقّت للعملية العسكرية (120 ساعة) مقابل خروج قوات سوريا الديمقراطية من “المنطقة الآمنة” بعمق 32 كلم، وتبِعه اتفاقٌ روسيٌ تركي في سوتشي بتمديد وقف إطلاق النار لمدة (150ساعة) إضافية، مقابل إبعاد مقاتلي وحدات حماية الشعب حتى مسافة 30 كلم من كامل الشريط الحدودي الممتد من كوباني إلى ديرك، وكذلك تسيير دورياتٍ مشتركة روسية تركية لمسافة 10 كلم في ما عدا “المنطقة الآمنة” تلك.
الموقف الروسي من عملية نبع السلام يتمحور حول ملء الفراغ الأميركي، وإمساك العصا من المنتصف في مقارباتها بين الأطراف المختلفة، كتركيا والحكومة السورية وقوات سوريا الديمقراطية، فقد طالبت مراراً ببدء حوارٍ بين الأخيرة والحكومة السورية للوصول إلى حلٍّ مستدام للمسائل العالقة بينهما، وخصوصاً القضية الكُردية.
وبالمقابل؛ فإن موسكو لا تنفك تطالب بالحفاظ على وحدة الأراضي السورية وسيادتها، وهي تكرر مطلبها هذا على كل من قسد والحكومة التركية، وبنفس الوقت امتنعت عن إدانة العملية العسكرية التركية في مجلس الأمن، لكنها بالمقابل، كانت تُحذّر أنقرة من انعكاساتٍ سلبية فيما لو أقدم الجيش التركي على ما من شأنه إحداث أيّ تغييرٍ ديمغرافي في شمال وشرق سوريا.
تحاول روسيا بوتين إبعاد تركيا عن محيطها الأطلسي ما أمكن، وهي نجحت في ذلك إلى حدٍّ كبير حتى الآن، فقد جرّت أنقرة لشراء منظومة الدفاع (S 400) الأمر الذي زاد من الهوة بينها وبين واشنطن، وكذلك فإن موسكو تريد إعادة العلاقات بين الحكومتين السورية والتركية، فاتفاق سوتشي ينصّ على الاحتكام لاتفاقية أضنة الموقعة بين الجانبين عام 1998.
المشروع الروسي في سوريا يريد إعادة المركزية إلى سوريا، وترى في “نبع السلام” فرصةً لإخراج الولايات المتحدة من المشهد السوري، وإرضاء تركيا بالقضاء بشكلٍ نهائي على مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية المعلنة منذ 2014 وإعادة هذه المنطقة الغنية بالنفط والمياه والزراعة إلى كنف الحكومة السورية مع إعطاء صلاحيات للإدارات المحلية في المحافظات السورية، والتي كان دورها معطّلاً فعلياً.
وفي سبيل ذلك، فإنها تدعو بين الحين والآخر لاستثمار فرصة الانكفاء الأميركي في المناطق النفطية شرقي سوريا، بدعوة قوات سوريا الديمقراطية للانخراط في مفاوضات مع الحكومة السورية، لإنهاء ملف شرق الفرات، والتفرّغ لموضوع إدلب، ومناطق سيطرة الفصائل الموالية لأنقرة، حيث معقل التنظيمات الجهادية، ومأوى عددٍ من قادة تنظيم داعش.
تدرك موسكو أن الاتفاق بين قوات سوريا الديمقراطية والحكومة السورية، من شأنه أن يزيد من استعادة الدولة السورية عافيتها الاقتصادية، وكذلك فإن قسد ستكون عوناً لها في حربها لاستعادة مناطق سيطرة المجموعات المتطرفة المدعومة تركياً، وهي على يقين أن العملية العسكرية التركية هي فرصتها شبه الأخيرة لتحقيق توازن بين الإدارة الذاتية ودمشق، حيث تريد استثمار الانسحاب الأميركي الجزئي، وكذلك تحييد أنقرة عن التدخل المباشر في مستقبل الأيام.
عن موقع شار: shar-magazine