عديدة هي المحطات المفصلية التي مرت بها الحرب السورية منذ اندلاع شرارتها الأولى ربيع العام 2011 لكن اللجنة الدستورية، التي أبصرت النور بعد طول منع، وذلك عقب اتفاق سوتشي بين رؤساء روسيا الاتحادية والجمهورية الإيرانية وتركيا في أنقرة أيلول/ سبتمبر من العام الماضي، تكتسي أهمية بالغة كونها المرة الأولى التي تلتزم بها أطراف الحرب بفعل حقيقي مشترك لمستقبل سوريا.
“اللجنة” كانت أحد مفاعيل مؤتمر “الحوار الوطني السوري” في سوتشي أواخر العام 2018 والتي شارك فيها آنذاك ممثلون عن الحكومة السورية، وموالون لها شاركوا بصفة مستقلين، وعدد من تيارات المعارضة، وكانت برعاية روسية.
وتغيَّب عنها “المجموعة الدولية المصغرة” التي تضم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا ومصر والأردن والسعودية، حيث تعتبر نفسها غير معنية بهذه اللجنة، وتريد إبداء سلة الانتخابات على السلال الأخرى، كونها تريد إخضاع اللجنة لمسار العملية السياسية القائمة برعاية أممية، وعدم السماح باقتصار الحل السياسي على إنجاز الدستور، وفق ما يريده ضامنو مسار أستانا.
لكن وبعد الاتفاق النهائي على عقدها فقد رحبت بتشكيلها، دون تقديم أي دعم مباشر لها.
راهنت أطراف الحرب السورية على الوقت ليحققوا في السياسة ما عجزوا عنه في العسكرة، فالحكومة السورية التي وافقت -على مضض على بيان جنيف عام 2012 والقرار /2254/ عام 2016 عادت لتتنصل منهما عن طريق فصل اللجنة الدستورية عنهما، والتأكيد على أن اللجنة ليست لديها صلاحيات تنفيذية، وأن الدستور الذي سينجزه أعضاء اللجنة لن يكون نافذاً ما لم يمر عبر الأطر الدستورية التقليدية في سوريا، وعليه فإنها تركز على أن الوفد الحكومي السوري هو مدعوم من الجمهورية العربية السورية، ولاحقاً أسموه الوفد الوطني، تمييزاً عن تسميته بوفد الجمهورية العربية السورية، حيث يشارك كجزء من لجنة ذات صلاحيات كاملة، كما أن المعارضة بشقيها العسكري والسياسي، الموالي لتركيا أصالة، أو المعارض للنظام وافقوا على حضور جلسات جنيف وهم يرفضونها في الحقيقة، وتخرج العديد من الفصائل معلنة رفضها لأي مخرجات من هذه الاجتماعات.
بالإضافة إلى إن الإدارة الذاتية هي نقطة ارتكاز قوية في المعضلة السورية، فالمنطقة الغنية بالثروات الطبيعية والمعقدة من الناحية الاثنية والطائفية تشكل أرقاً لعديد أطراف الحرب، فالقضية الكُردية مثلاً هي من أعقد القضايا التي تحتاج لمقاربات عملانية، بدل تسطيحها، باعتبارها امتداداً لمشكلة تركيا مع حزب العمال الكُردستاني، أو أنها ناتجة عن الهجرة من تركيا عقب الثورات الكُردية مطلع القرن الماضي، فالمكون القومي الثاني في سوريا، والذي تناهز نسبته /15%/ من السكان، وفق إحصاءات غير رسمية، يعاني من إنكار لوجوده كشعب يعيش على أرضه التاريخية، وتصر بعض الأطراف على التعامل معه كضيف طارئ على البلاد، لكي لا ينال أية حقوق سوى تلك التي من الممكن تسميتها بمواطنة من الدرجة الثانية، لذا فقضية تغييبه عن مسار الدستور هو وضع للعربة أمام الحصان، وبالتالي تأزيم القضية أكثر فأكثر.
كانت قائمة المجتمع المدني التي كوّنتها الأمم المتحدة هي عقدة المنشار في مسار اللجنة الدستورية، فالخلاف الحكومي السوري مع المعارضة ظل يراوح المكان شهوراً عديدة على القبول بحل مشكلة ستة أسماء مختلف عليها بين الجانبين.
الجولتان المتعثرتان اللتان تم إنجازهما يمكن الركون إليهما في الجولات القادمة، فبمجرد انعقاد جلسات اللجنة برئاسة مشتركة من الطرفين الرئيسيين، والاتفاق على آلية إطار لصياغة القرارات، هو اختراق مهم لحالة اللاحل التي كانت سائدة خلال العامين الأخيرين.
ربما التواجد داخل اللجنة الدستورية ليس معياراً حقيقياً لتضمين أي حقوق دستورية لمكونات الدولة السورية أو حتى لتحديد شكل الدولة، ونظامها السياسي، كون هذه الأمور مرتبطة بتفاهمات إقليمية ودولية أهم بكثير من تفهم أعضاء اللجنة الـ /150/ لكن يبقى التواجد ضمن اللجنة أمراً يعبر عن توازن القوى المؤثرة في المشهد السوري؛ فالوجود فيها هو اعتراف بتمثيل سياسي لها على الأرض، وبالتالي في مستقبل سوريا.
تحاول المملكة العربية السعودية الدخول على خط العملية السياسية في سوريا من جديد، وهي تريد أن تستثمر ملفي شرق الفرات، واللجنة الدستورية، لابتزاز تركيا التي بدأت منذ عام 2017 سياسة قضم الإدارة الذاتية، ومحاولة القضاء على مرتكزاتها، بالإضافة إلى أنها احتكرت تمثيل المعارضة السورية، وخلقت أتباعاً لها داخل المعارضة، يأتمرون بأمرها وينتهون بنواهيها.
تريد الرياض أن تعود إلى الميدان السوري بعد أن تركته عقب تعثرها في اليمن منذ عام 2015 واضطرارها للتخلي عن حليفها الرئيسي في سوريا، تنظيم “جيش الإسلام” الذي كان يسيطر على أجزاء واسعة من غوطة دمشق.
قد تتعرض اللجنة الدستورية لمحاولات عرقلة من النظام والمعارضة، ومن يواليهما من قائمة المجتمع المدني، كون نتيجة عملها ستنهي الكثير من مكاسبهما التي كسبوها خلال سنوات الحرب.
لكن تبقى اللجنة ركناً أساسياً من أركان حل المعضلة السورية التي ثبت أن لا حل عسكرياً لها؛ وبالتالي فإن القاعدة الذهبية التي يجب الركون إليها هي “لا غالب ولا مغلوب” فكل غالب سيكون مستبداً، وكل مغلوب سيكون عرضة للانتقام من الحاكم المستبد.
إنجاز الاستحقاق الدستوري سيعطي دفعاً كبيراً للتسوية في سوريا، لذا فعلى أطراف الحرب أن تعي أن لا فرص لانتصار أي مشروع بشكل تام، وعليه فإن مشاركة أكبر طيف من السوريين سيكون مفيداً للجميع، واستبعاد أي مكون منها ما هو إلا إطالة لأمد الحرب، ولن يفيد أي من أطرافها.
عن موقع npasyria