آلان حسن: الجدل الكُرديّ

Share Button

قول الرواية أنّ مدينة بيزنطة عاصمة الإمبراطوريّة الرومانيّة، كانت قد تعرّضت لحصارٍ طويل الأمد من قِبَل السلطان العثمانيّ محمد الثاني (المشهور بمحمد الفاتح) وذلك بعد أنْ صَمَدَت في وجه كلِّ أعدائها على مدى /11/ قرناً.

وبينما كان المحاصِرون يقصفونها بالمنجنيق؛ كان رهبانها وعلماؤها في كنيستها الكبيرة يتجادلون فيما بينهم حول قضايا خلافيّة عقيمة، من قبيل تحديد جنس الملائكة، وكذلك طبيعة السيد المسيح، وهل هو إنسانٌ أم إله، وتقول روايات أخرى أنّ جدالهم كان حول تحديد أيهما أسبق: البيضة أم الدجاجة، وبيان عدد الشياطين التي تستطيع أنْ تقف على حبّة شعيرٍ واحدة.

وكان الإمبراطور قسطنطين الحادي عشر قد بكى وهو يحاول تهدئتهم وتوحيدهم للتصدّي للسلطان، ولكن بلا جدوى؛ فكان انشغالهم بهذا الجدال سبباً لانصرافهم عن قتال أعدائهم، وبالنتيجة سقطتْ بيزنطة. ومن هنا أتتْ عبارة الجدل البيزنطيّ لتدلَّ على أيّ نقاش عقيم لا فائدة منه؛ وباتوا مثلاً دخلوا خلاله التاريخ من أسوأ أبوابه.

ويبدو أنّ الكُرد ماضون على هدي قدماء البيزنطيين، بَلْ يكادون يتفوقون عليهم في الإغراق بكمٍّ هائلٍ من القضايا الخلافيّة التي لا فائدة ولا رجاء منها، لدرجة أنَّ عبارة «الجدل الكُرديّ» ربما ستحلّ قريباً مكان عبارة «الجدل البيزنطيّ» التي تكاد تفقد قيمتها وأهميتها أمام ما يرتكبه الكُرد من كوارث خلافيّة ومآسٍ جدليّة، على الرغم من كلّ التحديات والمخاطر الوجودية التي تواجههم.

ولعلّ ما يمرّ به كُرد سوريا الآن هو أخطر مما عانوه خلال قتالهم تنظيم “الدولة الإسلاميّة” وغيره من التنظيمات المتطرفة، وبات مصيرهم مفتوحاً على احتمالاتٍ عدّة، قد يكون من بينها التهجير أو ما هو أسوأ، من قبيل ما حدث للكثير منهم إبان سيطرة الجيش التركيّ والفصائل السوريّة المسلحة الموالية له، على مدينة عفرين منتصف شهر آذار/ مارس من عام 2018 بعد انسحاب القوات الروسيّة منها، وكذلك السيطرة على “المنطقة الآمنة” الممتدة بين مدينتيّ رأس العين وتل أبيض، عقب الانسحاب الأميركيّ من هذه المنطقة.

ورغم التحديات الهائلة هذه‏؛ ينشغل الكُرد بقضّهم وقضيضهم في خلافات ثانويّة تُشْبِه تلك التي عانى منها أسلافهم البيزنطيون، والتي من شأنها أن تُفْقِدَهم ما كسبوه خلال سنوات الأزمة السوريّة، فنرى خلافات الأُطُر السياسيّة حول تحالفات الطرف الآخر في الحرب السوريّة ومدى نجاعتها، والتركيز على تصريحات خلافية لمسؤولين من الدرجة الثالثة، قِيْلَتْ في سياق غير الذي نعيشه الآن.

“حزب الاتحاد الديمقراطيّ” هو أحد أهمّ الأحزاب الكُرديّة النشطة في سوريا، ويُشكِّل مع مجموعة أحزاب سياسيّة ومنظمات مجتمعيّة؛ “حركة المجتمع الديمقراطيّ”، التي تسيطر فعلياً على إدارة ومجتمع شرقيّ شرق الفرات، مقابل سيطرة شكلية على منطقة غربيّ شرق الفرات، وذلك بسبب الوجود الروسيّ والحكومي السوريّ فيها، إضافة للسيطرة التركيّة على “المنطقة الآمنة”.

تحالفَ الحزب بشكل غير رسميّ مع الحكومة السوريّة منذ بداية الحرب عام 2011، ونسّق مع الروس والإيرانيين خلالها، وما لبثَ أنْ خَفَّ بريق التحالف هذا في مقابل صعود علاقة أقوى بينه وبين الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد معركة استعادة السيطرة على مدينة كوباني العام 2014.

المشروع الوحيد القائم في المنطقة يُتَّهَم بنزوعه للإيديولوجيا الأوجلانيّة بحسب “المجلس الوطنيّ الكُرديّ”، وبالانفصاليّة حسب “الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة”، حلفاء “المجلس”، ويواجَه المشروع بضغوط من مختلف أطراف الحرب السوريّة بسبب تعارضه مع توجّهاتهم في العودة لسوريا مركزيّة، والتخلص من الحُكِم الذاتيّ القائم في مناطق شمال سوريا، ويَقِف الكثير من الكُرد، شعباً ونُخَب سياسيّة في موقف المساند لكلّ تلك الأطراف، منغمسين في هواجس جدليّة لا هدف مرجواً منها، من قبيل مسمى “الإدارة المعلنة” وخُلُّوِها من أيّ صفةٍ كُرديّة، أو “الوحدات العسكريّة” وغياب تسمية كرديّة في أيٍ منها، أو ما يكثر الحديث عنه حول التركيز “المبالغ به” على التمسك بوحدة الأراضي السوريّة.

“المجلس الوطنيّ الكُرديّ” المعارض للإدارة الذاتيّة، هو إطار سياسيّ يضم عدد من الأحزاب التقليديّة الكُرديّة المقرّبة من حكومة إقليم كُردستان العراق، وهو جزء من “الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة السوريّة”، ويَتَّهم “حزبَ الاتحاد الديمقراطيّ” بافتقاده لمشروعٍ قوميٍّ كُرديّ، وفي الوقت نفسه المجلس جزءٌ من “الائتلاف” الموالي لتركيا الذي يَتِّهم “الاتحاد الديمقراطيّ” بالانفصاليّة!

وفي المقابل فإننا نَجِد بعض الكُرد يتناسون الخطر المُحْدِق بوجودهم، ويُرِكِّزون على تشويه السمعة الشخصيّة لخصومهم السياسيين، متخلّين بذلك عن الحصافة الأخلاقيّة للخلاف السياسيّ، وعن الجنوح للملعب السياسيّ في خلافاتهم.

وربما من سخرية القدر إنّ الأُطُر السياسية الكرديُة كُلّها، أو جُلّها، تنادي بالهدف نفسه، وتُحذِّر من المخاطر نفسها، وربما تشير إلى الأعداء عينهم، لكنها تمارس سياسة الخوض في الصراعات الثانويّة، وتخدم بذلك أعداءها خدمةً جليلة، لم يكونوا ليطلبوا أكثر منها.

إنّ هذا الواقع المرير لا يعني بأيّ حالٍ من الأحوال أنّ خيارات الكُرد قد تلاشت أو تضاءلت للوصول إلى أهدافهم المرجوّة، وكذلك فلا يجب أنْ يوجد مكانٌ لمشاعر اليأس والإحباط في نفوسهم، فبعيداً عن مثال الجدل البيزنطيّ العقيم ثمّة بدائل أخرى اختارت الحكمة والفعل، لا الجدل في غير محلِّه، فحققت انتصارات أقرَّ بها أعداؤهم المهزومون، وقّلَّل من شأنها أهل البيت المجادلون المعاندون! ‏

الأمثلة العملانيّة ينبغي أنْ تكون محلّاً للإظهار الشعبيّ والإعلاميّ، لمواجهة ثقافة اليأس والهزيمة، وتسويق خيار الاستسلام كأفضل البدائل المتاحة، وتجاهل أن ثمة خيارات وبدائل أُخرى لا تزال ممكنة وقابلة للتطبيق، خاصةً إذا عُزِّزَت بإجماع مطلوب، وتمت وقايتها من جدل كُرديٍّ مذموم يكاد لا يُبقي ولا يذرُ أيّاً من آمالهم.

نقلا عن موقع : نورث برس

Share Button

عن PDPKS

x

‎قد يُعجبك أيضاً

صدور العدد الجديد 86 من جريدة التقدمي

صدر العدد (86) من جريدة التقدمي الشهرية الصادرة عن مكتب الثقافة و الاعلام في منظمة ...