امتحنتَ الجهات على باطن كفّيك في منازلة متأرجحة بين الطُهر ونقيضه، لتأكيد الزعامة وإقرارها، فأصبح الشمال سيد الجهات بدون برهان، يثبت للجمهور كيف حصد الشمال تلك السيادة، كأيّ سجين يشتهي البقاء في زنزانته، هكذا كنت منحازا في اللعبة لتبقى جهة الشمال سيدة للجهات، وتبقى سجينا للشمال أينما هربت.
سلو الهارب من جغرافيته إلى جغرافية لا جهة لها، الذي غدر بأول شمالٍ احتضنه ليلجأ إلى الشمال الثاني ويطعنه، وكأنه يختار الشمال كي يغدر به بطعنة قاتلة ويعيد إحياءه في جغرافية أخرى، ليعود سيدا للجهات، سليمو الهارب من شمال لغته الكردية إلى شمال اللغة العربية بلسانٍ عربي منقوش ببلاغة مُرعبة ليتفوق على شريكه العربيّ بلغتهِ العربية، لسان الكرديّ الناطق بالعربية هوّية انتساب الكرديّ إلى العربيّة ولسان العربيّ الناطق بالكرديّة هوّية انتساب العربيّ إلى الكردية. ابن المُلا بركات يطارد اللغة بسوطه كجلادٍ لا يرحم كطريدة أسيرة يستدرجها إلى فخاخ قاموسه، ليُعيد صناعتها كمولودٍ مستحدث من أبٍ كرديّ وأمٍ مجهولة الهوّية، كعجينةٍ يُقلّبها بين راحتي كفّيه ليصنع منها لغة مستطابة سائغة وشهيّة المذاق، ينحت الكلمات بإزميله بحثا عن قارئٍ ينحت المعاني كي تكتمل نشوة اللغة والبلاغة، ثم يُقطع الكلمات إلى حروف بسكاكينه البتّارة التي لا تصلح لإعداد الطعام، بل لإعداد وليمة من البلاغة مجهولة الهوّية، لقارئٍ مجهول الهوّية. سلو الكرديّ الذي تمرّد على لغة شريكه فخرج عن المألوف والعاديّ، وابتكر لغة مجنونة لا صواب فيها وصاح بأعلى صوته أن كل داخلٍ سيهتف لأجلي وكل خارجٍ أيضا فدخلنا من الباب المُفضي إلى اللغة، وهتفنا لك وخرجنا من الباب المُفضي إلى اللغة وهتفنا لك، وهتفت لك اللغة وبياض الصفحات وهتف لك الموتى أيضا، وبعدها بعثرت قريتك الطينية موسيسانا كما تبعثر حفنة قمح على أرضٍ لا تصلح للحياة، فبقيت على حالك مهملا وبقيت موسيسانا على حالها مهملة، بدون مزارع يصلح بور أراضها فتعلن الدجاجات إفلاس بطونها من الطعام، لتبقى دجاجات أمك جوعى إلى أبد الآبدين، وتبقى رئة أبيك خاوية من دخان التبغ.
سليمو الكرديّ الهارب إلى شماله الناطق ليحمل مفاتيح الشمال ويكون حارسا على أبوابها الكبيرة، فكل جهة خرساء لا يسعفها لسانها إلى النطق عليها أن تستعين بلسان الشمال الناطق، كي تنطق، وكل جهة تائهة أيضا لا يرشدها بصرها إلى النظر، عليها أن تستنجد بشمالك يا سليم كي لا تضلّ طريق العودة إلى البيت، حارسٌ للشمال وحارسٌ للغة العربية أيضا ليختار منها المفردات الثقيلة كأكياس التبغ، ويحملها على ظهره الواسع ما لا طاقة لغيره على حملها، يختار من الكلمات المخيفة التي يحمل كل حرف من حروفها في باطنه أكثر من تأويل لصنع مأدبة مُحكمة الإغلاق بأقفالٍ كبيرة فيتوه الإدراك المرهق في بحرٍ من المعاني ليصل إلى المعنى الصواب الذي يليق بهذا التيه، وعند المساء يرجم بياض الصفحة بكلماته الثقيلة لنصب فخاخ البلاغة لقارئٍ سيغامر في الغوص بين هذه الكلمات عله لا يتوه في مأزق اللغة ويجد مخرجا يُفضي إلى النشوة.
٭ كاتب سوري
عن القدس العربي